الطّوفان

نشرة #10 :: تشرين الأول 2023

إنّ المذبحة المتواصلة في غزّة والتي تتكشّف أمام أعيننا يومًا بعد يوم بعد يوم، تُشعرنا بالعجز في مواجهة خراب القيم التي نتمسّك بها والتي تواجه الآن تهديدًا وجوديًّا. يُباد الفلسطينيّون فيما يقف العالم متفرّجًا، فيما يهلّل البعض لما يَرتكب المعتدي من فظائع ويلتزم البعض الآخر صمتًا مروّعًا، فيما نواصل نحن صراخنا وكأنّما نصرخ في فراغ. كيف نحافظ على إنسانيّتنا في مواجهة وحشيّة كهذه؟

لم يبقَ لنا ربّما إلانا، لكنّنا كُثر.

ماذا تملك السّينما أن تفعل في وجه فظائع كهذه؟ أن تشهد ربّما عليها. أن تجمعنا. أن تعترض على السّرديّات الملفّقة.

أُجبِر أصدقاؤنا في “فيلم لاب فلسطين” على تأجيل مهرجان “أيّام فلسطين السّينمائيّة”. عوضًا عن الاحتفال بالسّينما في فلسطين، قرّروا نشر فلسطين في العالم كلّه. أضاءت أيّام فلسطين السّينمائيّة الشّاشات على امتداد العالم، بفضل الشّركاء الذين يرفضون التّنازل في مواجهة قبض الاستعمار على خناق الإعلام وتضييقه على الحرّيات في كلّ أنحاء “العالم الحرّ” وتجريده للفلسطينيّين من إنسانيّتهم.
171 عرضاً في 41 بلداً.
لكلّ الذين شاركوا في تنظيم هذا الحدث أو ساعدوا فيه وترجموا النّصوص ونشطوا على مواقع التّواصل، نقدّم الشّكر والامتنان. ندرك حقًّا أنّنا لسنا وحدنا، لكنّنا لم نكن ندرك أنّ أعدادًا هائلة منكم رفضت تصديق كذب مؤسّسات الاستعمار السّياسيّة والإعلاميّة والتي لطالما حاولت عبثًا محو السّرديّة الفلسطينيّة من الوجود.

أمّا لأولئك الأصدقاء والحلفاء الذين التزموا الصّمت الرّهيب وهم يراقبون الإبادة أو ردّدوا من دون تفكير مواقف امبراطوريّاتهم المفترية، فماذا عسانا نقول؟ نحن قلقون عليكم.

لم يبدأ التّاريخ في السّابع من تشرين الأوّل 2023 كما يدّعي القادة الأميركيّون والأوروبّيون ووسائل إعلامهم، إذ يعاني الفلسطينيّون منذ 75عامًا من استعمار أرضهم ومصادرة بيوتهم وقتل أطفالهم وجرائم موثّقة أخرى وعديدة يعترف بها العالم ويرتكبها الاحتلال الاسرائيليّ يوميًّا منذ العام 1948.

كلّا، لم يبدأ التّاريخ في السّابع من تشرين الأوّل. استمعوا بتأنٍّ لما قاله الأمين العامّ للأمم المتّحدة في 25 تشرين الأوّل2023، بشأن الحرب على غزّة! عودوا إلى قرارات الأمم المتّحدة التي لم تنفّذ إسرائيل واحدًا منها. ماذا عن المذابح التي ارتكبتها إسرائيل منذ العام 1948 من دون أن يحاسبها أحد؟

حقًّا أقلقتمونا عليكم!

كيف ستواصلون دعم سرديّات العدالة الاجتماعيّة وإنهاء الاستعمار التي لطالما جمعت بيننا والتي قاومنا معًا كلّ الضّغوط لإسقاطها؟

من يروي التّاريخ يصنع المستقبل واستعمار السّرديّات من أبشع وأخطر أشكال الاستعمار. هذا جوهر الصّراع اليوم وكلّ مؤسّسات “العالم الحرّ” منخرطة فيه بكلّ ما تملك من قوّة.
لفهم “الطّوفان” إذًا، على المرء أن يعود إلى النّكبة وما قبلها من تاريخ ليرى كيف تحوّلت أسطورة “إسرائيل” إلى تاريخ وتاريخ فلسطين إلى أسطورة.
لفهم “الطّوفان” على المرء أن يعود إلى النّكبة ليرى كيف تُرك الفلسطينيّون يواجهون الموت وحدهم. لفهم “الطّوفان” يجب على المرء أن يَخرج من المألوف المريح ليواجه ماضيه الاستعماريّ الطّويل، عليه أن يفهم أنّ اليهود والمسيحيّين والمسلمين عاشوا على هذه الأرض، فلسطين، قبل أن يفرض “العالم الحرّ” نقيض ذلك. عليه أن يعترف أنّ الصّراع ليس دينيًّا بل هو في صميمه مواجهة مفتوحة بين المستعمِر والمستَعمر.
لفهم “الطّوفان”، على المرء أن يفهم أنّ للفلسطينيّ الحقّ باستخدام مفاتيح أجداده ليفتح بها ما يختاره من أبواب، لعلّها تقوده إلى عالم أكثر عدلًا من هذا المتوحّش الذي نعيش فيه اليوم.