الصورة لجو بييتي، من موقع فليكر.
نشرة #7 :: تمّوز 2023
ليس انضمام اتّحاد الممثلّين في هوليوود مؤخّرًا (والذي تشكّل عام 2012 بعد اندماج نقابة الممثّلين السّينمائّيين بالاتّحاد الأمريكي لفنّاني التّلفزيون والرّاديو) إلى إضراب نقابة الكتّاب الذي انطلق منذ أكثر من ثلاثة أشهر، بالأمر البسيط أبدًا.
قد يجادل البعض بأنّ الأمر لا يعنينا في العالم العربيّ، فمشاكلنا مختلفة وصناعتنا تعاني ما تعانيه نتيجة تعقيدات تختلف تمامًا عن واقع الأمر في الولايات المتّحدة الأميركيّة. هذا صحيح، ولكنّ الصّحيح أيضًا أنّ ما يجري هناك على كلّ المستويات ينعكس على كامل الكوكب أو يؤشّر أقلّه لما قد تواجهه باقي المجتمعات قريبًا.
ماذا يجري في هوليوود؟
نقطتان أساسيّتان كان اتّحادُ الممثّلين يفاوض عليهما “اتّحادَ منتجي السّينما والتّلفزيون” قبل أن تصل المفاوضات إلى طريق مسدود. النّقطة الأولى تتعلّق بأتعاب الممثّلين عند تكرار عرض أعمالهم خاصّة على منصّات البثّ التدفّقي والثّانية بحقوق هؤلاء الممثّلين عندما يستخدم المنتجون صورهم لإعادة إنتاج شخصيّاتهم عبر الذكاء الاصطناعيّ (خاصّة ممثّلو الصّف الثّاني من غير النّجوم).
في النّقطة الأولى ترفض الاستديوهات ومعها منصّات البثّ أمثال نتفلكس وديزني وأمازون الإفصاح عن عدد مشاهدي كلّ عمل ليتمّ بناءً عليه احتساب حقوق الممثّلين وهي رفضت التّنازل عن أيّ فلس من أرباحها الطّائلة لصالح الفنّانين.
لقد غيّر البثّ التّدفّقي النّموذج الاقتصاديّ التقليديّ للإنتاج السّينمائيّ، إن لناحية التّمويل أو لناحية جني الأرباح من المشاهدين (من دون ذكر التّأثير الفنّيّ المباشر على الشّكل والمضمون). من النّاحية المادّيّة يجد الفنّانون أنفسهم يواجهون وحشًا ماليًّا جشعًا من المستثمرين والمنتجين ومنصّات البثّ التّدفّقّي. ترتفع نسبة المشاهدين وترتفع الأرباح لكنّ أتعاب الفنّانين تبقى ثابتة رغم معاناتهم المادّيّة (بغضّ النّظر عن نجوم هوليوود الكبار فإنّ معظم الممثّلين في الولايات المتحدة الأميركية يكافحون لدفع كلفة العيش). من العدل أن ينمو دخل الفنّانين مع نموّ نسبة المشاهدين ولكنّ النّموذج الاقتصاديّ الليبراليّ “المعَوْلم” لا يقوده العدل بأيّ شكل من الأشكال ولا يختلف الأمر في الولايات المتحدة الأميركية عن أيّ مكان آخر على الكوكب.
أمّا في النّقطة الثّانية وقد تكون الأخطر، فقد عرض “اتحاد منتجي السّينما والتّلفزيون” على ممثّلي الخلفيّة (أو الكومبارس)، أن يتلقّوا أجر يوم عمل واحد بعد أن يتمّ تصويرهم (بواسطة مسح ضوئيّ كامل) ليحصل المنتج بذلك على حقّ إعادة إنتاج شخصهم عبر الذّكاء الاصطناعيّ ليتمّ استخدامه في أيّ فيلم في المستقبل (من دون موافقة مسبقة وإلى الأبد ودون مقابل). أي أنّ المنتج سيمتلك صورة الممثّل إلى الأبد ويتصرّف بها كما يريد مقابل أجر يوم عمل واحد يتلقّاه الممثّل. وصف اتّحاد المنتجين عرضه هذا بالعرض الرّائد ممّا ولّد ثورة لدى الممثّلين أدّت إلى إعلان إضراب شامل.
ما جوهر الصّراع؟
في بعده الأوّل الصّراع بطبيعته بين العامل وربّ العمل، ببساطة مطلقة. ربّ العمل هذا يقدّس الرّبح وبه يقيس الكون. رأس مال متوحّش في السّينما كما في صناعة السّلاح كما في صناعة الغذاء كما في كلّ شيء آخر. هذا واقع البشريّة اليوم؛ قلّة من شركات كبرى تسيطر على كلّ شيء، من الموارد الطّبيعيّة إلى الطّاقة إلى الغذاء إلى التّكنولوجيا إلى الإعلام إلى الصّحّة وصولًا إلى الإنتاج الفنّيّ. هذا النّموذج الذي يقود الولايات المتحدة الأميركية والكوكب (راجعوا مثلًا استثمارات شركتي بلاكروك وفانغارد: www.blackrockvanguardwatch.com).
في بعده الثّاني، الأهمّ والأخطر، يقع جوهر الصّراع في المواجهة بين البشريّة والذّكاء الاصطناعيّ. منذ بضعة أشهر لم يكن أحد ليفكّر بخطر الذّكاء الاصطناعيّ على البشر، لكنّ التكنولوجيا قفزت قفزات كبرى بسرعة قياسيّة لينتقل الأمر من الخيال العلميّ إلى التّهديد الوجوديّ. لم يتمكّن الذّكاء الاصطناعيّ حتّى اللحظة من خلق مضمون وصور تقدر على استبدال الصّناعة السّينمائيّة التّقليديّة، لكنّ الأمر سيحصل وهو أقرب ممّا نتخيّل وليست محاولة اتّحاد المنتجين في هوليود الحصول على حقّ استخدام صورة الممثّلين إلّا مؤشر أكيد على ذلك.
تأثير تطوّر الذّكاء الاصطناعيّ اليوم على الفنّ والفنّانين (وغيرهم من البشر المنتجين أدبًا وفكرًا وصناعة إلخ) سيشبه إلى حدّ بعيد تأثير الثّورة الصّناعيّة على عمّال المصانع. لا بدّ للبشريّة اليوم من رسم حدود لاستخدام هذا الذكاء وسنّ قوانين تضبط عمله لكنّ الأمر لا يبدو سهلًا خاصّة في ظلّ تلكّؤ حكومات القوى الكبرى عن التّدخّل عبر التّشريع للحدّ من المخاطر المترتّبة على سيطرة الذكاء الاصطناعيّ على مفاصل الحياة. رأس المال سيختار حتمًا زيادة الأرباح عبر الحدّ من كلفة اليد العاملة البشريّة، سيختار حتمًا استخدام ذكاء اصطناعيّ كلّما وجد إلى ذلك سبيلًا. لا يحتاج المرء لكثير من التّفكير ليدرك خطورة امتلاك رأس المال المتوحّش للذّكاء الاصطناعي. أعداد هائلة من العاطلين عن العمل سيُتركون للموت جوعًا أو مرضًا أو عبوديّة. إنّ إضراب اتّحاد الممثّلين في هوليوود يمثّل أوّل مواجهة في التّاريخ، بين القوى العاملة البشريّة وخوارزميّات تملكها وتديرها قلّة جشعة من البشر. الصّناعة السّينمائيّة هنا لا تختلف عن أيّ صناعة أخرى. يمكن تطبيق هذا الواقع على كلّ الإنتاج البشريّ. ستزداد الهوّة اتّساعًا بين الفقراء وأصحاب الثّروات الهائلة وسيتنامى تركّز المال والسّلطة والقوّة في يد القلّة القليلة من المحظيّين.
ما السّبيل لمواجهة ذلك؟
بالطّبع يسيل لعاب الشّركات أمام إمكانيّة خفض تكاليف اليد العاملة وبالطّبع لن تتدخّل الحكومات التي تعمل في خدمة رأس المال للحدّ من استبدال البشر بالذّكاء الاصطناعيّ. أيّ مؤسّسات يمكن الاعتماد عليها إذًا لتلعب هذا الدّور؟
تبدو النّقابات العمّاليّة مجدّدًا في طليعة القادرين على التّصدّي لما هو قادم في ظلّ غياب دور بعض الحكومات وتواطئ بعضها وجهل بعضها الآخر. يثبت التّاريخ قدرة النّقابات العمّاليّة على التّأثير بفعاليّة على صنّاع السّياسات، سواء في الحكومات أو داخل الشّركات بما فيه مصلحة النّاس جميعًا. قد يكون هنا أملنا الوحيد فالنّقابات وحدها تقدر على حماية حقوق العمّال عبر فرض قوانين تراعي مصالحهم. مهما كان رأينا الفنّيّ والسّياسيّ بهوليوود وصناعتها فإنّ إضراب نقابتي الممثّلين والكتّاب السينمائيّين هناك يحمل أهمّيّة كبيرة لأنه يمثّل أوّل مواجهة نقابيّة مع الذّكاء الاصطناعيّ وهي مواجهة تستحقّ المراقبة عن قرب لاستخلاص العبر.
في بلادنا، يبدو الموضوع أكثر تعقيدًا. فنقاباتنا إمّا غائبة وإمّا تعصف بها الانقسامات وإمّا مصادرة لمصلحة أنظمة الحكم فيما تحوّلت معظم النّقابات الفنّيّة عندنا من راعٍ لمصالح الفنّانين إلى أدوات رقابة تديرها أجهزة الأمن المتخلّفة. معركتنا تبدأ من الصّفر. من إعادة تكوين بعض النّقابات واسترداد بعضها الآخر من براثن الاستبداد. لا سبيل غير هذا علمًا أنّ المعركة الموازية مع أدوات الاستعمار بكلّ أشكاله ستدخل عصرًا أكثر قسوة إذ لن تتوانى القوى التي تتحكّم في مصير الكوكب عن تسخير الذّكاء الاصطناعيّ لتثبيت سيطرتها وتوسيعها (هذا قد بدأ فعلًا) وقد تدور بين هذه القوى معارك لم تشهد لها البشريّة من مثيل!
على مستوى الصّناعة السّينمائيّة فالخطوة الأولى في ما يخصّ موضوعنا هنا، تبدأ من إعادة بناء نقاباتنا وتفعيل دورها في تطوير القوانين الرّاعية للصّناعة وفرضها على المشرّعين في بلداننا العربيّة.
لا بدّ من المحاولة لأنّ ما هو قادم سيؤدّي إلى تغييرات جذريّة في مفهوم العمل وأدواته وإلى استيلاء قلّة من البشر استيلاءً مطلقًا على ثروات الكوكب ومخلوقاته.
جميع الحقوق محفوظة© 2024 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in
جميع الحقوق محفوظة© 2023 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in