صورة التقطها أرشاغ، التاريخ والموقع غير معروفين. 0138ar00108، 0138ar – مجموعة أرشاغ، المؤسسة العربية للصورة ، بيروت
نشرة #4 :: نيسان 2022
في هذا الشّهر يستحضر لبنان كلّ عام ذكرى اندلاع الحرب الأهليّة. ذاكرة تكثّفت فيها صور الخراب والموت حدّ الانفجار.
في بلد عصفت به أبشع أنواع القتل والذبح، لم يُحاسب أحد على جرائمه. طُويت صفحة القتل وانتقل القَتَلة من الجبهات إلى مكاتب الحكم! خلع المجرم لباسه العسكريّ وتزيّن بربطة عنق وأصدر عن نفسه عفوًا عامًّا. هنا لم تنته الحرب، هنا بدّلت الحرب لباسها. هذا المتغيّر الوحيد والانهيار الكبير الذي تعيشه البلاد اليوم ليس، في جزء منه، إلّا نتيجة طبيعيّة للقرار الذي أعفى الجميع من أيّ محاسبة.
هكذا تقف البلاد باستمرار على شفير حرب جديدة، لأنّها بلاد لم تتعلّم من تجاربها القاسية شيئًا، بل اختارت على الشّفاء النّسيان. الشّفاء مشروط بالعدالة والعدالة تتطلّب في ما تتطلّب محاسبةً للذات وللآخرين، عدالة تداوي الجراح التي إن تُركت مفتوحة على النّزيف عادت لتعبّر عن نفسها في أيّ فرصة. يحمل الجرح طاقةً هائلة لا بدّ أنّ تعبّر عن نفسها في مكان ما. إن شُفيت أبدعت وإن تراكمت انفجرت وكلّ انفجار يزيد من تشظّي المجتمع ويقوده في نهاية المطاف إلى الاندثار أو التّبعيّة.
حال لبنان يكاد يكون حال البلاد الممتدّة من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج. لا محاسبة، لا عدالة. محكومون نحن بالعيش مع جلّادينا تحت سقف واحد. نحمل ألمًا نسير به حتّى يأتي يوم يسير هو بنا فينهار السّقف على الجميع. هذا خرابنا ولا ندري به ربّما لأنّنا اعتدنا آلامنا.
في “نظريّة المحاسبة” التي وضع أسسها الأكاديميّ والباحث الكنديّ في العلوم السياسيّة فيليب إي تتلوك وطوّرها غيره من بعده، يرد ما معناه: “هي عمليّة يلتزم فيها الشّخص المعنيّ بشرح أفعاله أمام طرف آخر يملك الحقّ في الحكم على تلك الأفعال وبناءً عليه اتّخاذ القرار المناسب بحقّ هذا الشّخص إيجابيًّا كان أم سلبيًا”. هكذا يصبح المرء “مسؤولًا عن أفعاله ممّا يخلق لديه شعورًا بضرورة تبرير سلوكه ويدفعه للتّفكير مليًّا قبل الإقدام على اتّخاذ أيّ قرار أو تنفيذ أيّ فعل”. تنظر النّظريّة إلى هذا الشّعور كفضيلة يتمتّع بها الشّخص المُساءَل وتفنّد آليّة المحاسبة في عدّة أجزاء. أيننا نحن اليوم من هذه الفضيلة وهل نطبّق فعلًا أيّ آليّة للمحاسبة؟
تحكمنا نظم استبداديّة ملكيّة وقبليّة ودينيّة أو أحيانًا برلمانيّة مشوّهة يختبئ فيها الاستبداد خلف قشور الديمقراطيّة ومظاهرها. منذ ما يقارب الألف عام تحكم عقولنا، مناهج تفكير (إن صحّ هنا استخدام كلمة مناهج) تكفّر كلّ فكر مغاير وتمنح لنفسها هالة من القداسة، ليس ذلك في الفكر الدّينيّ فقط بل في كلّ مناهجنا الفكريّة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ليس في الإلغاء مكان لفضيلة “المحاسبة”. ما من حاكم لدينا يحمل فضيلة كهذه. الحكم عندنا متوارث ومن يرث الحكم لا يحتاج لأيّ فضيلة. إن كان الله هو من يحاسِب أو القبيلة أو الطّائفة، فإنّ النّاس في هذه الحالة مجرّد رعيّة. هذا نظام لا يطلب من الحاكم فضيلة ولا يقدر على إنتاج آليّات محاسبة.
قد يبدو هذا الواقع السوداويّ كجلد للنّفس ولسنا نحن من هواته. ندرك أنّنا نعيش في عالم تحكمه بأوضح صورة، نظُمٌ جشعة فائقة التّوحّش تبني كلّ سياساتها على تحقيق الرّبح السّريع وتُرَكِّز ثروات الكوكب في يد قلّة قليلة من البشر. في هذا النّظام الذي تتسلّط فيه قلّة على ثروات الكوكب، لا مكان للمحاسبة. القوّة المجرّدة من أيّ رحمة لا تترك مجالًا للمحاسبة ومن يمتلك القوّة اليوم هو من رسم النّظام العالميّ ومؤسّساته وقوانينه وهو من يطّبقها على غيره دون نفسه، هو من يحتكر كلّ شيء من الموارد الطبيعيّة إلى المعرفة إلى الثروة إلى القوّة إلى القانون … إلى المحاسبة. هو من يشنّ الحروب على أنواعها ليزيد من احتكاره للثّروات وهو من يدوس على أعناق الشّعوب التي أفقرها. هذا النّظام هو الآخر لا يحتاج ليحكم لأيّ فضيلة وإن كنّا نظّن أنّه نتاج ديمقراطيّة ما فعلينا أن نعيد التّأمّل بتاريخ الكوكب.
في ظلّ هذا التّوصيف المختصر قد يبدو ألّا مكان للأمل، لكنّنا كما قلنا في ما مضى، محكومون بالأمل. ليس أملنا ما ورائيًّا أو قدريًّا مستسلمًا، بل هو مبنيّ على ثقتنا بقدرة الإنسان على الإبداع فكرًا وأدبًا وفنًّا. دورنا أن نعمل على توفير ظروف الإبداع.
في ما يتعلّق بالمحاسبة، نرى أنّ الإبداع الثّقافيّ يلعب دورًا محوريًّا في نشر ثقافة المحاسبة. كلّ رواية تلمس آلام المجتمع تدعو في نهاية المطاف إلى فضيلة المحاسبة كأحد المداخل للتسوية بين البشر، كمدخل من مداخل العدل حول العالم. نعمل على دعم أيّ إنتاج يحثّ على المحاسبة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لأنّنا معنيّون بالشّفاء، بتحقيق العدالة في المجتمع.
نعم، نحن معنيّون أوّلًا بمجتمعاتنا لكنّنا نعلم تمام العلم أنّ العدالة عندنا إنّما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعدالة على مستوى الكوكب ككلّ. المبدأ واحد لا يمكن تجزئته. إنّنا لا نفصل مآسينا عن حال العالم ككلّ فتطوّر الشعوب يرتبط باستقلالها، أي بامتلاكها لمواردها وثرواتها ومعارفها. النّظام الذي يحكم الكوكب اليوم نظام يحتلّ كلّ موارد الكوكب، لا يحاسب نفسه ولا يترك لأحد مجال محاسبته.
نعم، علينا أن نحاسب أنفسنا وحكّامنا ولكن من فرض الواجب أن نعمل أيضًا على محاسبة النّظام المتحكّم بالكوكب. لا ينفصل الإثنان.
قد لا نملك كمبدعين القدرة على محاسبة مراكز التسلّط والقوّة ولكنّنا حتمًا نقدر على فضحها في أعمالنا الإبداعيّة. لذلك نرى من واجبنا وواجب كلّ المبدعين وكلّ المؤسّسات الثقافيّة التّعاون للحثّ على المحاسبة سواء على المستوى المحلّيّ أو على المستوى العالميّ. نريد الشّفاء لأنفسنا ونريده لكلّ البشر.
لا شفاء من دون عدالة ولا عدالة من غير محاسبة والطّريق طويل. ندرك ذلك ولكنّنا ندرك أيضًا أنّ كلّ مسير إنّما يبدأ بخطوة. للسينما أن تكون من الخطوات الأولى.
جميع الحقوق محفوظة© 2024 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in
جميع الحقوق محفوظة© 2023 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in