الصورة من حساب UN photos على تويتر.

عودة الفاشيّة

نشرة #7 :: تموز 2022

ها قد توحّش الكوكب.

قد يظنّ المرء أنّ البشريّة إذ تقف أمام فشل النّظم المتوحّشة التي كادت تجعل من الكوكب غير قابل للحياة، ستتّجه حكمًا نحو ابتكار نظم أخرى أكثر عدلًا وتسامحًا ورأفة بالخلق، نظم تقوم على التّعاون والوحدة، نظم تنبذ التّنافس والجشع ونظريّات التّفوّق والتّفرقة. لوهلة يظنّ المرء أنّ الجائحة الأخيرة قد قدّمت للبشريّة الدّليل السّاطع على ضرورة ابتداع نهج جديد لإدارة ثروات الأرض وحياة الكائنات عليها، لكنّ الحقيقة الموجعة إنّما تدلّ على تمسّك النّخب الحاكمة على امتداد العالم بعولمة التّوحّش، وما الصّراع الدّائر بأوضح صوره اليوم بين الغرب والغرب الشّرقيّ على الاستئثار بالثّروات إلّا أبرز دليل على فشل الجنس البشريّ في ابتداع نهج جديد. هذا صراع قد يودي بنا إلى الانقراض، هذا صراع يدفع بالكوكب كاملًا إلى فاشيّة جديدة. عند الأزمات الكبرى إمّا يذهب النّاس يسارًا وإمّا يذهبون يمينًا. نحن اليوم نتّجه وبثبات نحو أقصى اليمين.
عيونهم خضر ولونهم من لوننا ودينهم من ديننا عبارات صادمة استخدمها إعلام “العالم الحرّ” لوصف الهاربين من الحرب في أوكرانيا. ليس هذا بغريب ولا هو بجديد على هذا النّوع من إعلام التّوحّش ولكنّه لم يكن ليمرّ سابقًا مرور الكرام دون انتقادات واسعة قاسية. لكأنّنا نقف مجدّدًا أمام عنصريّة كنّا نظنّها قد أَفَلَت، لكنّ الواقع المستجدّ اليوم يثبت أنّ هذا الفكر الفوقيّ مازال يحكم ومازال يدير عقول النّخب ويتحكّم بعقول شرائح واسعة من الجماهير. لسنا نروّج هنا للتّشاؤم ولكنّنا نشير إلى زيف “الدّيمقراطيّات” الحاكمة على وسع المعمورة، زيف ظهر بوضوح عندما تعرّضت رفاهيّة بعض الشّعوب لهزّة بسيطة.

في الغرب، يستمرّ الإعلاميّون الذين نطقوا بأبشع أنواع العبارات العنصريّة على الهواء، يستمرّون بممارسة مهنتهم وكأنّ شيئًا لم يكن، فيما يسحب معهد غوته دعوته من المناضل الفلسطينيّ محمّد الكرد باسم محاربة معاداة السّاميّة وعقابًا له على رأيه ويتعرّض فنّانون فلسطينيّون لأبشع أنواع التّهديد والتّرهيب في برلين من دون أن تحرّك أنظمة الحكم هناك ساكنًا. هذه DW دويتشه فيله تطرد صحافيّين (معظمهم من الفلسطينيين) لمجرّد انتقادهم لإسرائيل وبتهمة معاداة السّاميّة المعدّة سلفًا على قياس الحركة الصّهيونيّة وها هو البرلمان الألمانيّ يجرّم حركات مقاطعة إسرائيل وها فرنسا وبريطانيا تحذوان حذوه. هذا الرّئيس الأميركي يعلن صراحة ومن فلسطين بأنّه صهيونيّ بامتياز ويفشل في نطق اسم الصّحافيّة الشهيدة شيرين أبو عاقلة التي تحمل جنسيّة بلاد الرّئيس الأميركيّ نفسه.
لم تعد نظم التّوحّش تبذل أيّ جهد لارتداء قناعها الديمقراطيّ العادل. من المفيد ربّما أن تسقط الأقنعة ولكنّ سقوطها إنّما يشير إلى استفحال التّوحّش ويشي بِنيّة أنظمة التّسلّط الذّهاب بعيدًا في حماية رفاهيّتها ولو على حساب الحياة على الكوكب. فاشيّة في أوضح صورها. من الصّراع في أوكرانيا والتّفرقة المخزية بين الهاربين من حروب الكبار على الكوكب إلى الإدارة الكارثيّة لموضوع الجائحة ولقاحاتها إلى محاولات تصفية فلسطين وإسكات كل من ينادي لها بالعدل إلى مصادرة حق النّساء في الإجهاض في أميركا وصعود حركات التّفوّق الأبيض في كلّ مكان، هي الفاشيّة النيوليبراليّة الجديدة بأوضح صورها وهذا مجرّد غيض من فيض.

هذا في الغرب، أمّا عندنا وبحكم تنوّع مجتمعاتنا الإثني والدّينيّ، ترتدي الحركات المتطرّفة أقنعة عدّة. منذ سقوط المعتزلة حتّى اليوم، تنتج كلّ الأفكار عن يمينها ويسارها أيديولوجيّات متطرّفة تستقرّ في المجتمع وتروح تمارس التّكفير بحقّ كلّ من لا يشبهها ونحن لا نتكلّم هنا عن ظاهرة داعش فحسب. الفكر التّكفيريّ طاغٍ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وليست أنظمة الحكم الاستبداديّ إلّا أحد ظواهره العديدة.
ها هو الاستبداد يتفشّى من المحيط إلى الخليج. في مصر يمثّل علاء عبد الفتّاح نموذجًا ساطعًا عن حال الآلاف القابعين في سجون الرّأي وكذلك الأمر في سوريا والمغرب والجزائر مرورًا بليبيا التي تتقاتل قبائلها على فتات النّفط المنهوب فيما تعيد تونس إنتاج استبداد جديد بثبات. في البحرين تُقال وزيرة الثقافة لرفضها مصافحة السفير الإسرائيليّ ويُعاقب الشّعب جماعيًّا على خياراته فيما يجري إخفاء أصحاب الرّأي المختلف في السّعوديّة ويكاد الشّعب اليمني يُباد عن بكرة أبيه وسط تصفيق الحليف الغربيّ. في لبنان المأزوم على كلّ الصّعد يبدع رجال الدّين وعصاباتهم المنتشرة في الشّوارع في قمع كلّ ما يمتّ إلى مجتمع الميم بصلة ويتحكّمون بكلّ مفاصل القضاء والسّياسة والإعلام.
كلّ الأديان والإثنيّات عندنا تُنتج تطرّفها ومجتمعاتنا مهدّدة بالتّشظّي والموت البطيء. العنف هنا يكاد يصبح لغة التّخاطب الوحيدة. الأمثلة تكاد لا تنتهي والمصائب يصعب تعدادها ولا مجال هنا لذكرها جميعًا، لكنّ الثّابت الأوضح حاليًّا هو انتشار الفاشيّة على أنواعها عندنا وفي الغرب وفي كلّ أصقاع الأرض.
ندرك أنّ العقل الذي يدير نظام التّوحّش لا يعمل انطلاقًا من مبادئ أخلاقيّة سامية ولا يهمّه سوى مراكمة الثّروة وهو قادر على توظيف كلّ العوامل في سبيل الاستئثار بكامل موارد الأرض. قلّة قليلة من البشر تمتلك اليوم كلّ الثروة وهي قادرة على إدارة التّطرّف ليخدم مصالحها. هذا تمامًا ما يحصل اليوم وليس من الغريب أن ينمو التطرّف حول منابع الطّاقة!
في ظلّ هذا الواقع الظّلاميّ، نتحمّل نحن كمؤسّسات عاملة في مجال دعم الفنون ومنها السينما سواء في العالم العربيّ أو على امتداد الكوكب، مسؤوليّة مضاعفة.
هنا نقف لنؤكّد أننا نعمل انطلاقًا من مبادئ الحقّ كحقّ كلّ مخلوق في الاستفادة من ثروات الكوكب، والخير كالعدل والتّسوية بين البشر، والجمال كجوهر أساسيّ في النّفس البشريّة. الفنّ بطبيعته يتّصل اتّصالًا عضويًّا بهذا الجوهر ولا ينفصل عنه. الجمال واحد والنّفس البشريّة واحدة والفنّ تعبير متجلٍّ عن هذه الوحدة. كلّ انتاج فنّيّ بطبيعته يقف في مواجهة التّوحّش والفاشيّة.
أمامنا اليوم خيار من اثنين. إمّا نعيد ابتداع النّظم (وهذه فرصة لا نملك ترف تفويتها) وإمّا نستسلم للتّوحّش الذي سيذهب بنا إلى التّهلكة. الخيار واضح، الفنّ في مواجهة التّطرّف.

نقف مع العدل وكما يقول عبد الرّحمن الكواكبي، فالوطن حيث العدل. لم يتبقّ وطن على وجه الكوكب وعلينا أن نعيد إنتاج قيمة العدل من مشرق الشّمس إلى مغربها.
فلنتكاتف.