وكالة أباكا / علمي

سرديّات الاقتتال

نشرة #2 :: شباط 2023

في 21 شباط الماضي عقد مجلس الأمن التّونسيّ بحضور رئيس الجمهوريّة اجتماعًا طارئًا “لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النّظاميّين من إفريقيا جنوب الصّحراء إلى تونس … مع ما تؤدّي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة”. هذه الجملة الأخيرة وردت على لسان رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بحسب البلاغ الذي نشرته الصّفحة الرّسميّة لرئاسة الجمهوريّة على فايسبوك. في هذا التّصريح يضيف سعيّد: “هذا الوضع غير طبيعي … هناك ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التّركيبة الدّيمغرافيّة لتونس … هناك جهات تلقّت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النّظاميين من إفريقيا جنوب الصّحراء في تونس … هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النّظامية، الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة إفريقيّة فقط ولا انتماء لها للأمّتين العربيّة والإسلاميّة…”.

في هذا البلاغ المقتضَب، تتبنّى رئاسة الجمهوريّة بوضوح سرديّات سلبيّة متجاهلة سرديّات أخرى قد تكون أكثر دقّة وواقعيّة.

في “العنف والجرائم والممارسات غير المقبولة” نجد تلك الرّواية التي تكرّر نفسها في كلّ مكان تقريبًا والتي تحمّل المهاجرين واللاجئين والنّازحين مسؤوليّة كلّ آفة قد يعاني منها المجتمع. هذا الخطاب الذي يعتمده المتطرّفون في لبنان مثلًا في مواجهة النّزوح السّوريّ هو نفسه الخطاب الذي يعاني منه السّودانيّون في مصر والسّودانيّون الجنوبيّون في السّودان نفسه، بل هو الخطاب نفسه الذي لا يكلّ اليمين المتطرّف الأوروبّي عن ترداده في وجه التّونسيّين وفي وجه غيرهم من المهاجرين. رغم محاولة أصحاب هذا الخطاب ارتداء لبوس الدّفاع عن قيم المجتمع العليا وأخلاقه السّامية إلّا أنّهم لا يمانعون البتّة استغلال ضعف هذه الفئات لتشغيلها بأجور بخسة. هكذا، فإنّ أقلّ ما يمكن أن يُقال في هذه السّرديّة أنّها شعبويّة عنصريّة.

لا يتوقّف التّصريح الرّئاسيّ عند هذا الحدّ بل يذهب بعيدًا في التّرويج لسرديّة أخرى مستخدمًا عبارات كعبارة “التّرتيب الإجراميّ” مثلًا و”تغيير التّركيبة الدّيمغرافيّة” و”توطين المهاجرين” و”تلقّي أموال طائلة” من أجل تغيير انتماء تونس العربيّ والإسلاميّ! لا نقدر أن نعرف إن كان الرّئيس قيس سعيّد قد بنى موقفه بناءً على معطيات أمنيّة وسياسيّة يملكها ولكنّنا لا نستطيع أن نتجاهل استنساخ خطابه للخطاب الغربيّ العنصريّ الذي يدّعي أنّ الهجرات ستؤدّي إلى تغيير الوجه الثقافيّ للغرب ويعبّر في كلّ فرصة عن نظرته الدّونيّة لكلّ الشّعوب من “غير البيض”. لم ننسَ بعد اللغة العنصريّة التي استخدمها بعض الإعلام الغربيّ في توصيف نزوح الأوكرانيّين هربًا من الحرب في بلادهم. “فلنقلها بوضوح وصراحة، هؤلاء ليسوا بنازحين من سوريا … هؤلاء مسيحيّون بيض” قالت كيلي كوبيلا مراسلة أن بي سي من بولاندا في وصفها للنّازحين الأوكرانيّين. قبلها قال مراسل سي بي أس شارلي داغاتا في معرض تغطيته للموضوع نفسه: “ليس هذا المكان، مع كلّ الاحترام، كالعراق أو أفغانستان … هذا بلد متحضرّ وأوروبيّ…”. كيف لنا أن نواجه هذا الخطاب العنصريّ فيما بعض قادتنا يستخدمون نسخة عنه؟
“الإجْصيّون” مثلًا، نعت ابتدعه الحزب القومي التّونسي في اشتقاق مركّب من “إفريقيا جنوب الصّحراء”، ليصف به المهاجرين من الدّول التي تقع جنوب الصّحراء الكبرى، وهو نعت يشبه إلى حدّ بعيد النّعوت التي تُطلق على الأميركيّين من أصل أفريقيّ في أميركا أو أصحاب البشرة السّمراء في العالم العربيّ. عن قصد أو من غيره، فإنّ تصريح الرّئاسة التّونسيّة يتماهى تمامًا مع السّرديّة العنصريّة للحزب القومي التّونسيّ.
طبعًا ليس رهاب الأجانب حكرًا على تونس، بل يكاد يعمّ كلّ الدّول مع صعود الحركات الفاشيّة في كلّ مكان، لكنّه تفشّى واستعر مع بداية هذا العام في تونس لعدّة أسباب منها الوضع الاقتصاديّ الصّعب الذي تواجهه البلاد وقد لعبت وسائل التّواصل الاجتماعيّ وبعض الإعلام دورًا أساسيًّا في تأجيج هذه المشاعر العنصريّة. هذه هي السّرديّة السّائدة في الشّارع اليوم، سرديّة تحمّل “الغريب” مسؤوليّة المصاعب الاقتصاديّة وتنظر إليه بدونيّة وتضعه في موقع المتآمر على هويّة المجتمع. من الغريب أن تقوم مؤسّسات الدّولة بتبنّي سرديّة خطيرة كهذه قد توصل إلى العنف وتؤدّي إلى تفجير الشّارع! تبدو الدّولة هنا كمن يطلق النّار على نفسه.

أين الفائدة إذًا في تسعير هذا الخطاب المعادي لمواطني دول جنوب الصّحراء في وقت تسعى فيه القارّة الأفريقيّة إلى تنفيذ مشروع طموح لإصدار عملة إفريقيّة موحَّدة؟ أين مصلحة تونس في هذا؟ لماذا تختار الدّولة تبنّي هذه السّرديّات الشّعبويّة وتتجاهل أنّ استغلال الدّول الصّناعيّة الكبرى لموارد أفريقيا (انطلاقًا من أميركا مرورًا بأوروبّا وروسيا وصولًا إلى الصّين) وإغراقها للشّعوب الأفريقيّة في الفقر والجوع وتغذيتها للصّراعات القبليّة، إنّما يؤدّي إلى هجرة الفقراء السّاعين لركوب قوارب الموت باتّجاه أوروبّا ويحوّل تونس إلى دولة من دول العبور الأساسيّة؟ لماذا تتجاهل الرّئاسة التّونسيّة نتائج الاستعمار الأوروبّي لأفريقيا (المستمرّ حتّى اليوم بأشكال عدّة) كسبب رئيسيّ من أسباب الهجرة نحو الشّمال فيما التّونسيّون أنفسهم من ضحايا هذا الاستعمار؟ لماذا تتبنّى الدّولة سرديّة سلبيّة كهذه تشحن العصبيّات البدائيّة وقد تخلق صدامًا سياسيًّا مع دول الجوار؟ (أدان الاتحاد الإفريقي في بيان له، ما جاء في حديث قيس سعيّد بشأن المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء وسيّرت بعض الدّول الإفريقيّة رحلات “لإجلاء” رعاياها بعد تعرّضهم لحملات تنكيل في الشّارع)
قد لا تبدو الإجابة عن هذه التّساؤلات بالأمر السّهل ولو أراد المرء الخروج من الإطار التّونسي إلى إطار أشمل لوجد نفسه أمام تساؤلات أعمق.

هل تحاول الرّئاسة التّونسيّة تحويل الأنظار عن حملة الاعتقالات الواسعة بحقّ معارضين سياسيّين وأفراد من مجتمع الميم عبر توجيه غضب الشّارع إلى خطر داهم متوهَّم؟ إذ كيف لبضعة آلاف من المهاجرين من جنوب الصّحراء أن يهدّدوا هويّة المجتمع (العدد الرّسمي للمقيمين القانونيّين لا يتخطّى 21500 مقيم، فيما تشير أرقام المنظّمات الحكوميّة إلى ما يقارب 60 ألفًا من غير النّظاميّين)؟ هل من خلفيّات أخرى لاعتماد الرّئاسة لهذه السّرديّة المدمّرة؟
عام 2016 أنشأ الاتّحاد الأوروبيّ “الوكالة الأوروبيّة لحرس الحدود” وهي منظّمة أمنيّة بحت تتولّى مهمّة اصطياد المهاجرين في البحر وتدريب وتجهيز الأجهزة الأمنيّة لدول جنوب المتوسّط لصدّ كل من يحاول من المهاجرين الصّعود إلى مركب من مراكب الموت. ثمّ تزايد الضّغط الأوروبّي على تونس لتقبل باقتراحات بعض الدّول الأوروبيّة، كاقتراح فرز ملفّات طالبي اللجوء في تونس بدلًا من أوروبّا واقتراح استقبال تونس للمهاجرين الذين يتمّ ترحيلهم من أوروبّا. هل من علاقة بين تصريح الرّئاسة التّونسية وهذا الملفّ؟ وما الدّاعي عندها لاستخدام الخطاب لسرديّات عنصريّة خطيرة كهذه؟ هل يحاول الرّئيس ربّما ركوب موجة العداء للأفارقة من جنوب الصّحراء التي تسود بلاد المغرب ومصر مستغلّةً أفكار بعض غلاة المتطرّفين من تيّار “المركزيّة الإفريقيّة” (جرى مؤخّرًا إلغاء حفل للكوميدي الأميركي كيفن هارت كان مقرّرًا إقامته في مصر بعد حملة ضدّه على مواقع التّواصل بحجّة انتمائه للمركزيّة الإفريقيّة)؟
كلّ السّرديّات التي تدغدغ العصبيّات سرديّات خطيرة وهدّامة تبني على الجهل وتجد من يستغلّها ليفرّق بين النّاس فيسود عليهم وعلى ثروات بلادهم. اعتماد الرّئاسة التّونسيّة لهذه السّرديّات العنصريّة أطلق في الشّارع موجة عنف واعتقالات ومضايقات تعرّض لها أصحاب البشرة السّمراء فامتنعوا عن الخروج من منازلهم وطُرد بعضهم منها وتغيّبوا عن الدّراسة في الجامعات وغادر آخرون البلاد فيما يعيش من بقي منهم حالة من الرّعب الشّديد، علمًا أنّ العنف شمل تونسيّين من ذوي البشرة السّمراء.

كلّ هذه السّرديّات تؤدّي إلى هذه النّتيجة المرعبة، فهل من سرديّات بديلة؟
أليس الأجدى اعتماد سرديّات تعزّز محاولات نهوض الشّعوب الأفريقيّة وتدعم استقلالها وسيادتها على مواردها المنهوبة؟ لا يليق بتونس، العضو المؤسس لمنظّمة الوحدة الإفريقيّة، إلّا الوقوف إلى جانب الشّعوب المضطهدة والسّعي لتحقيق التّضامن بين شعوب دول الجنوب والعودة إلى لعب دور معرفيّ حضاريّ يساهم برفاه كلّ البشر. لا يليق بتونس إلّا الوقوف إلى جانب هذه الشّعوب التي كاد استغلال دول الشّمال لها أن يلغيها من الوجود. لا يليق بتونس إلّا سرديّات الوحدة والعدالة والمحبّة والأخوّة والتّضامن. لا يليق بتونس إلا دور قيادة النّهوض بالعالم العربيّ والقارّة الإفريقيّة.

هكذا نريدها وهكذا نحبّ لها أن تكون، قدوة.
تلك البلاد التي أبكتنا فرحًا مرّتين، مرّة يوم استقلّت ومرّة يوم أسقطت الاستبداد عن صدرها، لا يليق بها إلّا الجمال.