نشرة #8 :: آب 2023
بالتّوازي:
كلّ هذا في شهر آب أغسطس الماضي!
في هذه الأثناء:
انهيار اقتصاديّ وماليّ شامل، جمهوريّة بلا رئيس، حكومة تصريف أعمال لا تقدر على اتّخاذ أيّ قرار، مجلس نيابيّ لا يقدر على التّشريع، مصرف مركزيّ بلا حاكم لا يقدر على التّحكّم بسوق النّقد، مصارف بلا أموال، اشتباكات مسلّحة في مخيّم عين الحلوة، ضمّ إسرائيل لكامل قرية الغجر اللبنانيّة، التّمديد لقوّات اليونيفيل وسط تجاهل تامّ لمصالح لبنان وعجز حكوميّ تامّ، شهيد وجرحى للجيش اللبناني في مداهمة مجموعة اتّجار بالمخدّرات، عودة نشاط مجموعات داعش، مطار بيروت من دون تكييف وسط ارتفاع كبير في درجات الحرارة، توقّف التّحقيق بانفجار المرفأ، قتيلان في اشتباك مسلّح في قرية الكحّالة، انتشار شبكات التّجسّس الإسرائيليّة، هجوم من مجموعة متطرّفة تحمل اسم “جنود الربّ” على حانة في بيروت وإقفالها بالقوّة أمام أعين قوى الأمن، إلخ إلخ إلخ.
باختصار، هي حفلة جنون مطلق.
للوهلة الأولى قد لا يجد المرء تفسيرًا لتصرّفات السّلطة وبعض الشّارع إلّا في الجنون المطلق. أيّ عقل هذا الذي ينصرف عن الكارثة ليصبّ جهده على قمع فئة مهمّشة من النّاس؟ أيّ عقل يتجاهل انهيار مجتمع بأكمله ليدّعي حماية الأسرة من غزوة قيم “غريبة” و”مخالفة للطّبيعة”؟ أيّ عقل يرفض تحمّل مسؤوليّة الانهيار (أو مجرّد إدارته) ليلقي بكامل اللّوم على “المؤامرة”؟ أيّ عقل يرى في الضّحك تهديدًا له؟
في خمسينيّات القرن الماضي طوّر عالم النّفس الأميركي جوليان روتر نظريّته الشّهيرة “وجهة الضّبط” أو” مركز الضّبط” Locus of Control، أي باختصار مدى شعور المرء بقدرته على التّحكّم بنتائج الأحداث في حياته. يقع مركز الضّبط هذا على خطّ بين نقيضين: توجّه داخليّ (اعتقاد الفرد بأنّه يتحكّم بمجرى حياته Internal Locus ) وتوجّه خارجيّ (اعتقاد الفرد أنّ مجرى الحياة خاضع لتحكّم عوامل خارجيّة لا يمكنه التّأثير عليها External Locus). بناءً على هذه النّظريّة تستنتج العديد من الدّراسات النّفسيّة ما يلي:
كلّما مال “مركز الضّبط” عند المرء نحو التّوجّه الخارجي كلّما اعتقد بفقدانه للسّيطرة على مصيره وارتفعت لديه أعراض العجز والقلق والتّوتّر والاكتئاب ومال إلى إلقاء اللّوم على الآخرين وأرجع أفعاله إلى عوامل خارجيّة كالقدَر والحظّ والقوّة (كالسّلطة والدّين مثلًا؟).
هل يفيدنا ذلك في فهم “حفلة الجنون”؟ ربّما نحتاج، قبل محاولة فهم هذا الجنون، أن نضيف إلى النّظريّة أعلاه تأمّلًا في مفهوم الشّعور بالعار!
يقول الباحث الأميركي جون برادشو: “… العار كشعور صحّيّ يشكّل الأسس النفسيّة للتّواضع. لكنّ هذا العار يمكن أن يتحوّل إلى حالة وجوديّة. كحالة وجوديّة يستولي العار على كامل هويّة الإنسان… هو متى تحوّل إلى هويّة أصبح سامًّا وقاتلًا للذات الإنسانيّة. لا يمكن احتمال العار السّامّ وهو يفرض دائمًا الاختباء والتّستّر، يفرض “ذاتًا مزيّفة”. يشرح برادشو في أبحاثه المهمّة (المبنيّة على أعمال الكثير ممن سبقه) كيف يصنع العار السّام شخصيّة مزيّفة وكيف تصبح هذه الذات المزيّفة منبعًا للاضطرابات النّفسيّة والعنف الإجراميّ والسّياسيّ. العار السّام يصنع نفسه ولا يحتاج لمحرّضات خارجيّة، بل هو حالة وجوديّة يعيشها الإنسان فارضًا الشّعور بالعار على نفسه. هو شعور لا يُحتمل. أحد وسائل التّستّر على هذا النّوع من العار تكمن، كما يقول برادشو، في إسقاطه على الغير وفي التّعبير عن غضب دفين بالعنف والاضطهاد وربّما القتل. سلوكٌ عُصَابِيّ.
إنّنا هنا نأخذ ما يجري في لبنان كمثال مصغّر عن حالة كبرى تعمّ المنطقة العربيّة، ففي العراق مثلًا يناقش البرلمان قانونًا ينصّ على إنزال عقوبة الإعدام بالمثليّين والمثليّات وسط كلّ التّهديدات التي تمرّ بها البلاد ووسط توقّعات علميّة بجفاف نهري دجلة والفرات تمامًا مع حلول العام 2050!
بناءً على ما عرضناه آنفًا باختصار شديد، نزعم أنّ الإنسان في المنطقة العربيّة يعيش حالة من العجز النّاتج عن تراكم أحداث تاريخيّة جعلت “مركز ضبطه” يقع إلى أقصى “التّوجّه الخارجيّ” (External Locus Of Control) وجعلته يعيش هويّة “العار السّامّ” وهما حالتان تخطّتا الفرد لتتحوّلا إلى “حالة مجتمعيّة”. هو مجتمع قدريّ في عقله الباطن، يشعر بعجز تامّ ويعاني من القلق والتّوتّر والاكتئاب بالإضافة إلى شعوره بعار سامّ عميق وقديم يُنتج غضبًا خارجًا عن سيطرة العقل. هو مجتمع محكوم بالبحث عن أسباب خارجيّة لفشله وباستخدام العنف كأسهل وسيلة للتّعبير عن توتّره وإخفاء عاره…
هكذا يُسقط المجتمع عاره على مهمّشيه محكومًا بقدَر يلاحقه منذ مئات السّنين. هكذا يبحث عن وسيلة لاستعادة الشّعور بالسّيطرة على مجريات حياته، فيستضعف فئة منه ويلقي باللّوم عليها هربًا من عاره الذي لا يُحتمل.
هل من دوّامة أخطر وأكثر ظلامًا من هذه؟
نقف إلى جانب نور حجّار، ومريم مجدولين اللحام، ومجتمع الميم عين وكلّ المهمّشين على هذه الأرض…
جميع الحقوق محفوظة© 2024 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in
جميع الحقوق محفوظة© 2023 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in