لوحة ل جفاد تاكجو 

الملائكة أيضًا تموت

نشرة #10 :: تشرين الأول 2022

“لقد قتلوا ملاكي” تقول والدة الشّابّة الإيرانيّة مهسا أميني بعد مقتلها إثر اعتقالها من قبل ما يُعرف في إيران “بشرطة الإرشاد”! اعتُقلت أميني في الثالث عشر من أيلول بتهمة عدم التزامها “بقواعد الثّياب المفروضة على المرأة” وأُعلن عن وفاتها يوم السّادس عشر منه. تضاربت روايات شهود عيان مع الرّواية الرّسميّة للتّحقيق الرّسمي. فيما أفاد الشّهود بتعرّض مهسا للضّرب على الرّأس أثناء اعتقالها وفيما أكّد رئيس هيئة بندر عبّاس الطّبيّة تعرّضها لنزيف من الأذن، أعلنت هيئة التّحقيق الرّسميّة أنّ سبب الوفاة هو قصور في القلب ونشرت صورًا من كاميرات المراقبة، تظهر فيها مهسا وهي تتحدّث مع شرطيّة داخل “مركز التّهذيب” ثمّ تسير لخطوات وتنهار ساقطة على الأرض. رفضت العائلة رواية التّحقيق وقالت إنّ الصّور المنشورة قدّ تمّ اقتطاعها من سياق أوسع ثمّ دَفنت ملاكها وسط احتجاجات عمّت العديد من المدن الإيرانيّة.
لسنا هنا في صدد تبنّي رواية ورفض أخرى ولكن، فلنغُص بالموضوع إلى صُلبه، فلنقم معًا بالتمرين التّالي، فلنختر ممّا ورد أعلاه بعض العبارات ولنصنع منها جملة:

اعتقلت شرطة الإرشاد في إيران مهسا أميني بسبب عدم التزامها بقواعد الثّياب المفروضة على المرأة ثمّ اقتادتها إلى مركز التّهذيب. ُأعلن عن وفاة مهسا بعد ثلاثة أيّام.
بغضّ النّظر عن أسباب الوفاة، ألا تثير هذه الجملة الغثيان؟ ألا تشير إلى نهج ذكوريّ مجرم بحقّ النّساء؟ هنالك من يظنّ بأنّ النّاس تحتاج لإرشاد وينصّب نفسه مرشدًا لهم وعليهم ثمّ يقرّر قواعد الثّياب المفروضة على النّساء ويُنشئ للإرشاد شرطةً محوّلًا “الإرشاد” من فعل نُصْحٍ إلى فعل فرضٍ بالقوّة داخل ما يُسمّى مراكز التّهذيب. إرشادٌ فتهذيب ففرض فقتل! هي إذًا سلطة قاتلة يمارسها رجال على نساء مهما تعدّدت الرّوايات ومهما أقيم من هيئات تحقيق. هذا استنتاجٌ أوّل.

فلنكمل التّمرين. فلنجعل من مهسا أميني رجلًا ونركّب جملة بديلة:
اعتقلت شرطة الإرشاد في إيران محمّد أميني بسبب عدم التزامه بقواعد الثّياب المفروضة على الرّجل ثمّ اقتادته إلى مركز التّهذيب. أُعلن عن وفاة محمّد بعد ثلاثة أيّام.
هل للجملة الجديدة وقعٌ مختلف في نفس القارئ رجلًا كان أم امرأة؟ فلنتأمّل في شعورنا لدقيقة من الوقت…
قد نجد نتيجةً لهذا التّمرين أنّ النّهج الأبويّ المتسلّط متغلغل في عقولنا لدرجة تجعله يقود فكرنا وفعلنا متفلّتًا من وعينا قائدًا لحياتنا من أعماق اللاوعي. كلّ رجل يظنّ نفسه حرًّا يقرأ هذه الجملة ويشعر بانزعاج ما، هو رجل ربّما يحكم عقله الباطنيّ نهج أبويّ قديم دفين. كلّ امرأة تظنّ نفسها حرّة تقرأ هذه الجملة وتشعر بارتياح لها، هي امرأة ربّما يحكم عقلها الباطنيّ نهج يشبه إلى حدّ بعيد النّهج الذّكوريّ إيّاه. هذا استنتاجٌ ثانٍ.

إنّ مسيرتنا إلى التّحرّر إنّما تتطلّب وقوفًا طويلًا كلّ صباح أمام مرآة الذات.

على أيّ حال، لقد استفضنا في الحديث عن النّظام الأبويّ في عدّة مناسبات سابقة، لكنّه يطارد يوميّاتنا بعنف وقد نجده طرفًا مذنبًا في كلّ مأساة تعانيها المجتمعات على امتداد المعمورة. ليس الغرب الذي يُطلق على نفسه لقب “العالم الحرّ” (مقارنة بعالم آخر يعتبره غير حرّ) بعيدًا أبدًا عن النّهج الأبويّ، وهو يتّبع نهجًا قد يكون أكثر عنصريّة من أيّ نهجٍ حاكمٍ آخر. لكيّ لا نبتعد عن الموضوع الحدث في هذه الأسطر (أي مقتل الشّابّة مهسا أميني)، نسأل بعض الأسئلة. لماذا اختار إعلام الغرب التّركيز على الإثنيّة الكرديّة لمهسا أميني؟ لماذا تقوم قائمة الغرب لمقتل أميني ويتجاهل بوقاحة قتل النّساء والأطفال واعتقالهنّ في فلسطين في كلّ يوم وساعة؟ لماذا يتجاهل هذا الإعلام الحكم على مريم السّيد طراب بالإعدام رجمًا بتهمة الزّنا في ولاية النّيل الأبيض في السّودان؟ أتذكرون سِجن أبو غريب؟ وذاك الكريه في غوانتانامو؟ ماذا عن قانون تجريم الإجهاض في الولايات المتّحدة مثلًا وماذا عن السّماح بزواج القاصرات (والقاصرين) هناك (44 ولاية أميركيّة تسمح حتّى اللحظة بزواج الأطفال)؟ هل من داع للمزيد من الأسئلة؟
لم نصدّق الغرب في ادّعائه الحرص على نساء إيران وتمكينهنّ في مواجهة النّظام الأبويّ الحاكم هناك ونكاد لا نصدّقه في أيّ شيء. ليس أقبح من قتل النّساء بتهمة عدم التزامهنّ “بالحجاب الجيّد” أو بتهمة الزّنا، إلّا استغلال موتهنّ لمصالح استعماريّة. الفعلان واحد. ليس أقبح من فرض الحجاب على النّساء إلّا إجبارهنّ على خلعه! الفعلان واحد من نهج واحد، أبويّ ذكوريّ متسلّط.
منذ عامين تقريبًا، أعلن الرّئيس الفرنسي نيّة الدّولة الفرنسيّة التّصدّي لما وصفه بـ “الانعزاليّة الإسلاميّة” التي تسعى إلى “بناء نظامٍ موازٍ وإنكار الجمهوريّة”، معلنًا الخطوط العريضة لمشروع قانون “مكافحة النّزعات الانفصاليّة” الذي يستهدف تحديدًا “الإسلام السياسيّ” بحسب ادّعاء ماكرون. تحوّل اسم القانون لاحقًا ليصبح “قانون تعزيز العلمانيّة وتقوية قيم الجمهوريّة. في العنوان يبدو مشروع القانون جذّابًا، لكن في المضمون تظهر تفاصيل تشي بنيّة المشرّع الفرنسي التّضييق على مسلمي فرنسا من خلال عدّة بنود منها تحديدًا منع المرأة، تدريجيًّا، من ارتداء الحجاب. أقرّ مجلس الشيوخ الفرنسي مؤخّرًا تعديلات تطال بشكل خاصّ لباس النّساء المسلمات وأصدرت محكمة ليل قرارًا يمنع المحاميات المحجّبات من تمثيل موكليهنّ داخل المحاكم في شمال فرنسا، قرار يشكّل سابقة قد تتبنّاها بقيّة المناطق الفرنسيّة.
هذه فرنسا نفسها التي فيها وُقّع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والذي ينصّ في المادّة 18 منه على التّالي: “لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”. مَن مِن موقّعي هذا الإعلان يلتزم به اليوم؟ هو كغيره من القوانين الدّوليّة يُطبّق فقط متى أملت مصالح الدّول تطبيقه. والمصالح محكومة بالقوّة.
إنّ دولة كفرنسا، تدّعي من جهة القتال من أجل حرّيّة المرأة في إيران وفي العالم، تمنح نفسها من جهة أخرى حقّ تقرير أنواع اللباس الذي يجب على المرأة التّقيّد به وتسعى لفرضه بقوّة القانون. هي أبويّة واحدة بمناهج مختلفة! أبويّةٌ دينيّة تُفسّر الدّين بطريقة ذكوريّة وتقهر المرأة وأبويّة كولونياليّة حداثيّة تعتقد بنزع لباس المرأة لتحريرها وفي هذا أيضًا قهر يتجاهل حرّيّة المرأة في اختيار عقيدتها ولباسها. الطّامّة الكبرى أنّ من يقرّر عن المرأة حياتها لا يسأل رأيها. أليس هذا مبدأ “الإرشاد” نفسه الذي يُطبّق في إيران”؟ أين صوت المرأة في ذلك وماذا عن حقّها في تمثيل نفسها بالصّورة التي تراها مناسبة لها، سواء بناءً على عقيدة أو اعتقاد أو رغبة بالتّعبير عن فكرة ما؟ وكأنّ من قدر المرأة في مختلف الثقافات أن تتحوّل إلى رمز ثقافيّ أو معيار تقاس به تقدّميّة العقائد والأفكار السّياسيّة. في هذا تحويل للمرأة من إنسان إلى شيء. هل من “شرّ” أكبر من هذا. تجريد الإنسان من إنسانيّته عمل شيطانيّ يتناقض مع جوهر الرّسالات السّماويّة.


يوم سار يسوع حاملًا صليبه، مجلودًا داميًا مكلّلًا بالشوك، سارت خلفه ومعه نسوة رسولات من صُلبِه، مريم الأمّ ومريم المجدليّة وأختها مرثا وغيرهنّ لا نعرفهنّ. تلك ملائكة صعدت درب الجلجلة منذ أكثر من ألفي عام، وتلك الملائكة لا زالت اليوم تصعد دروب جلجلة كلّ يوم وتُحمَّل ألف صليب كلّ ثانية، بقرار من بضعة رجال تسلّطوا على تأويل النّصين الدّينيّ والقانونيّ بما يناسب ذكوريّتهم.
لا بدّ لذلك أن يتغيّر، لكنّه لن يتغيّر بالدّعاء، بل يتغيّر بالعمل والإصرار والعزم والمثابرة. يتغيّر بعين القلب، بقدرته على استيعاب الله الذي لم يسعه كتاب. نُحيل رجال هذه المعمورة إلى مقال الشّيخ محي الدّين ابن عربي:
“لقد صار قلبي قابلًا كلّ صورة
فمرعًى لغزلانٍ، وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ
وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحبّ أنَّى توجهتْ ركائبه
فالحبّ ديني وإيماني”

أين الرّجل من كلّ هذا؟
الدّين حبّ. حبّ شامل جامع. أمّا الرّجل (أقلّه ذاك الذي قلّد نفسه زمام السّلطة) فقد اختار أن يُثبت لخالقه وهو يقف أمامه ويحكم باسمه أو ينتفض عليه، أنّه يقدر على… قتل الملائكة.