المستقبل الذي نريد

نشرة #6 :: حزيران 2023

منذ العام 2010 وصولًا إلى العام 2018 شهدنا ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الأفلام العربيّة المستقلّة التي عُرضت في مختلف أنحاء العالم. لم ترتفع نسبة إنتاج هذه الأفلام فحسب، بل ارتفعت كذلك الأمر نسبة مشاركتها في المهرجانات العالميّة وحظيت بانتشار أوسع من أيّ وقت مضى. حصل ذلك بفعل جهود صنّاع الأفلام أنفسهم بالشّراكة مع المؤسّسات الثقافيّة وصناديق الدّعم وشركات الإنتاج وبفعل دورات التّدريب وتطوير البنى التّحتيّة، رغم كلّ العقبات التي واجهها إنتاج الفيلم المستقلّ في المنطقة العربيّة بدءًا من نقص في التّمويل مرورًا بالمخاطر الأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وصولًا إلى توحّش الرّقابة واستبداد أنظمة القمع.
في هذه الفترة، بدت الأرقام جيّدة ورحنا نشهد تطوّرًا لقطاع سينمائي مستقلّ واعد.

يبدو اليوم أنّ هذا الأمل، للأسف الشّديد، لن يدوم طويلًا.
منذ العام 2021 بدأنا نلحظ تراجعًا في عدد الطّلبات التي تتلقّاها منصّتنا للإنتاج المشترك “ملتقى أفلامنا” (أي ملتقى بيروت السّينمائيّ سابقًا)! تراجع العدد من 130 فيلمًا عام 2019 إلى 73 فيلمًا عام 2023.
لنستكشفَ واقع الأمور ونكوّن صورة أكثر وضوحًا، تواصلنا مع الزّملاء في “آفاق” لنجد أنّ أرقامهم تشير في الاتّجاه ذاته؛ تراجعٌ في عدد الأفلام التي تقدّمت بطلبات للحصول على دعم في فئتي الإنتاج وما بعد الإنتاج، من 196 إلى 142 فيلمًا.
في لبنان ومصر، البلدين الأكثر إنتاجًا للأفلام في المنطقة العربيّة، شهدت فئة ما بعد الإنتاج انخفاضًا بنسبة 41% في لبنان و70% في مصر وهذا تراجع هائل *. تجدر الإشارة هنا إلى نقطتين مهمّتين. أوّلًا؛ إنّ عدد الأفلام قيد التّطوير (بحث وكتابة) لم يتراجع بنفس القدر، ممّا يشير إلى أنّ عددًا كبيرًا منها لا يحظى بفرصة الانتقال من التّطوير إلى الإنتاج (علمًآ أنّ عددًا مهمًّا من الأفلام التي تنهي مرحلة الإنتاج يواجه صعوبات جمّة في الانتقال إلى مرحلة ما بعد الإنتاج). ثانيًا؛ إنّ عدد الأفلام التي تشارك حاليًّا في المهرجانات (7 أفلام في مهرجان كان مثلًا) لا يشير إلى واقع الإنتاج اليوم، إذ أنّ هذه الأفلام قد دخلت مرحلة الإنتاج خلال السّنوات الثلاث أو الأربع الماضية. بالتّالي، فإنّ علينا أن ننتظر من ثلاث إلى أربع سنوات لنشهد نتيجة الانخفاض الكبير في عدد الأفلام التي يتمّ إنتاجها اليوم.

بحثنا في الوضع أكثر وبعد التّواصل مع زملائنا في عمّان والقاهرة وبيروت تأكّدنا من شكوكنا، فالتّراجع عامّ ويطال كلّ المشهد السينمائيّ في المنطقة. أصبح من الواضح أنّ مجموعة من العوامل السّلبيّة تؤثّر بالصّناعة ومؤسّساتها وتهدّد بضياع كلّ الجهود التي بُذلَت على مدى سنين طويلة للنّهوض بالقطاع وتطوير بنيته التّحتيّة، فبعض المؤسّسات مهدّدة بإقفال أبوابها مع نهاية هذه السّنة…
من هذه العوامل الرّئيسيّة التي تهدّد القطاع اليوم، انخفاض مستوى التّمويل بنسبة كبيرة فالكوكب منشغل عن الثّقافة بالأزمات الاقتصاديّة والحرب في أوكرانيا، يضاف إلى ذلك ارتفاع مستوى القمع والمخاطر الأمنيّة، وتوحّش الرّقابة وتقييد الحرّيّات وتهديد أمن وسلامة صنّاع الأفلام والمؤسّسات العاملة في القطاع وفقدان الحدّ الأدنى من الأمن الاجتماعيّ لكامل العاملين في القطاع على اختلاف مهنهم وتوجّه رأس المال نحو الرّبح المضمون والسّريع وشراء الأصول.

كلّ المؤشّرات تقود إلى الاعتقاد بأنّ هذا التّراجع في إنتاج الفيلم المستقلّ في المنطقة العربيّة سيطول أمده وقد يتّخذ منحًى منحدرًا باضطراد ممّا سيقود بطبيعة الحال إلى نتائج خطيرة كإقفال المؤسّسات والشّركات التي تشكّل البنية التّحتيّة للقطاع وتآكل هذه البنية مع مرور الوقت وخسارة القطاع للقوى العاملة فيه بعد تحوّلها إلى مهن أخرى أو نتيجة هجرتها الحتميّة للمنطقة نحو أسواق أكثر إنتاجيّة. إذا استمرّت هذه الظّاهرة فإنّنا قد نصل إلى خسارة كبيرة قد يصعب من بعدها إعادة إحياء القطاع بسرعة!

اللحظة حرجة ولا تحتمل الكثير من المراوحة وتتطلّب حتمًا ابتداع أساليب جديدة تنطلق من الواقع الجديد وتبني على ما أنجزه القطاع السينمائيّ في المنطقة في السّنوات الماضية.
يحتّم علينا ذلك أن نفكر مليّاً بأشكال الدعم المتاحة حالياً، ونوسّع مداها من دعم مشاريع، إلى دعم بنى تحتية قائمة أو مبادرات حديثة تطرح حلولاً جديدة ليكون المستقبل فعلاً هو المستقبل الذي نريده ونستحقه.