رسم ديريك دشانغ
نشرة #3 :: آذار 2023
يعاني السّينمائيّون العرب اليوم أكثر من أيّ وقت مضى من مجموعة هائلة من الصّعوبات التي قد تؤثّر، في ما تؤثّر، على سلامتهم وأمانهم كأفراد. هم يخاطرون اليوم بكلّ ما يملكون وقد يخاطرون أحيانًا بحياتهم، في سبيل إنتاج شريط سينمائيّ قد لا تتاح لكثيرين في نهاية المطاف فرصة مشاهدته! هم يعملون ضمن سياقات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وتمويليّة ودينيّة وثقافيّة ورقابيّة معقّدة وخطيرة، تهدّد سلامتهم في كلّ لحظة من لحظات مسار الإنتاج الإبداعيّ.
للدّول العربيّة جمعاء تاريخ طويل من الرّقابة القاسية على المُنتَج الإبداعي وكلّ المؤشّرات اليوم تعلن توحّش الرّقابة التي تبدأ من النّص ولا تنتهي مع التّوزيع وقد تصل أحيانًا إلى حدّ السّجن والتّهديد بالقتل. إعمالٌ متخلّف في إسكات كلّ صوت لا يتماهى تمامًا مع سرديّات الأنظمة الحاكمة. كلّ من يحاول اليوم إنتاج فيلم يعالج مشكلةً اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة ما، إنّما يعرّض نفسه لخطر مواجهة أجهزة المنظومات الحاكمة الرّسميّة منها وغير الرّسميّة، فالدّولة التي يجب بالمبدأ أن “تحتكر العنف”، توكّله أحيانًا لمجموعات من البلطجيّين والمرتزقة الذين ينفّذون الأعمال القذرة لصالحها. هذه ممارسة لا تقتصر على دولة عربيّة دون غيرها. من لم يُسجن بالجسد أو يُقتل، سُجن خياله وقُتل فكره وقَتْل الأفكار كقتل حاملها!
طبعًا ليست الدّولة وحدها من يحتكر الرّقابة في عالمنا. إن تجبّرت الدّولة استخدمت المؤسّسات الدّينيّة (بل فلنقل تواطأت معها) لخدمة السّرديّات التي تناسبها، وإن ضعُفت سلطة الدّولة وتفتّت، تركت للمؤسّسات الدّينيّة وظيفة إسكات السرديّات التي لا تناسبها. في الحالين نجدّ تواطؤًا خطيرًا بين الإثنين وفي الحالين يدفع المبدعون العرب ثمنًا غاليًا لإبداعهم ويدفع المجتمع ككلّ ثمن غياب السّرديّات التي تقدر أن تُنتج تغييرًا ما. لا تحبّ الدّولة عندنا الإبداع إلا متى كان بوقًا لها ولا يحبّه رجال الدّين فهو قد يتناقض تناقضًا تامًّا مع قراءتهم للنصّ الدّينيّ.
راوح مكانك ومُتْ بصمت. هذا نتاج الرّقابة وقمع حرّيّة التّعبير.
إلى جانب الرّقابة، التي تلعب هي الأخرى دورًا في خنق مداخيل المبدعين الماليّة، نجد السّينمائيّين العرب يقعون كغيرهم من أفراد المجتمع ضحيّة تردّي أحوال اقتصادات معظم البلدان العربيّة. لم يكن تمويل الأفلام العربيّة يومًا سهلًا، لكنّه أصبح الآن أكثر صعوبة من ذي قبل. في ظلّ الانهيار الاقتصاديّ وفي ظلّ غياب السّياسات الثقافيّة التي تدعم الإنتاج الإبداعيّ يجد صنّاع الأفلام في عالمنا اليوم صعوبة كبيرة في تأمين الأموال اللازمة لإنتاج أفلامهم. إن كانت أفلامهم مصدر دخلهم الوحيد وجدوا أنفسهم حتمًا في مواجهة خطر السّقوط في الفقر. عليهم بالتالي أن يتّكّلوا إمّا على تمويل بعض الجهات العربيّة المانحة (على قلّتها) وإمّا الرّضوخ للصناديق التّابعة للدّولة التي تفرض سرديّاتها الخاصّة وإمّا اللجوء إلى صناديق الدّعم الأجنبيّة التي تمتلك هي الأخرى أجندات خاصّة جدًّا. في الحالتين الأخيرتين على المبدع أن يرضخ لشروط ما، مباشرة كانت أم غير مباشرة. من واجب الدّول العربيّة طبعًا أن تضع سياسات ثقافيّة تشجّع الإنتاج السّينمائيّ وتدعمه في كلّ مراحله، من الكتابة إلى التّصوير وما بعده وصولًا إلى التّوزيع وهذا جزء أساسيّ من دور الدّولة. إن كانت بعض الدّول قد أنشأت صناديق دعم (خاصّةً في مرحلة صعود الدّولة العربيّة القوميّة) فإنّها صناديق لطالما خضعت وما زالت تخضع بطبيعتها لمصالح النّظم الحاكمة وسرديّاتها. الانهيار الاقتصاديّ والصّناديق الخاضعة لمصالح الدّول والنّقص الكبير في مصادر التّمويل بالإضافة إلى سياسات الإفقار التي تنتهجها بعض النّظم الحاكمة من ناحية وتفرضها بالقوّة والحرب الدّول العظمى المتحكّمة بثروات الكوكب من ناحية أخرى، كلّها عوامل تشكّل عنفًا اقتصاديًّا مطلقًا بحقّ المجتمعات العربيّة. متى نجح سينمائيّ في الهروب من عنف الرّقابة وجد نفسه في مواجهة عنف اقتصاديّ أقسى من الموت نفسه. من يملك المال اليوم يملك الأرواح على الكوكب وكلّ فيلم خارج هذه المنظومة، هو عمل “بطوليّ” يواجه فيه صنّاعه كلّ ما يخطر على بال من أخطار.
إنّ النّقص في التّمويل لا يضع السّينمائيّيّن في مواجهة خطر العنف الاقتصاديّ فحسب، بل يجعل منهم عرضة لشتّى أنواع المخاطر المرتبطة بطبيعة العمل. فالميزانيّات الضئيلة المخصّصة للإنتاج السّينمائيّ تؤدّي في نهاية المطاف إلى الاقتصاد الشّديد في تأمين مستلزمات الحماية وأدوات السّلامة الشّخصيّة في موقع التّصوير والتّقشّف في تأمين الغذاء المناسب والإقامة الكريمة بالإضافة إلى اعتماد ساعات عمل طويلة تحرم فريق الفيلم من ساعات النّوم اللازمة ومن أوقات الرّاحة الكافية وغيرها الكثير من الأمور التي توثّر بشكل مباشر على حياة المبدعين وقد تؤدّي أحيانًا إلى الموت. إنّ الحرمان من النّوم مثلًا يتسبّب بضعف في التّركيز ويؤدّى إلى حوادث مميتة وهنالك الكثير من الأمثلة عن مبدعين فقدوا حياتهم نتيجة لذلك. وسط كلّ هذه الظّروف، يعمل السّينمائيّون في العالم العربيّ اليوم وفي عملهم بطولة تستحقّ الدّهشة. هي بطولة لا تقف هنا، بل تذهب إلى حدّ العمل أحيانًا في ظروف أمنيّة شديدة التّعقيد والخطورة.
فالاستقرار السّياسيّ في بلادنا شبه معدوم والنّزاعات المسلّحة تنتشر في أكثر من بقعة. تخيّلوا مثلًا خطورة العمل على إنتاج فيلم سينمائيّ في ليبيا أو سوريا أو العراق (على سبيل المثال لا الحصر). لا يواجه السّينمائيّون هناك مثلًا رقابة الدّولة وقمعها فحسب، بل يضطرّون للتّعامل مع واقع أمنيّ متقلّب ومتغيّر وغير آمن إطلاقًا. يحملون حياتهم على أكفّهم ويسعون بقلوب كبيرة إلى صناعة أفلام لربّما تقدر على إعادة إنتاج بعض الأمل.
هذا غيض من فيض المخاطر التي يواجهها السّينمائيّون في العالم العربيّ ولو أردنا تفصيل كلّ المخاطر لأسردنا لها هنا صفحات لا تنتهي. هذا غيض من فيض الآلام التي تدفع العديد من السّينمائيّين، إمّا إلى المخاطرة بحياتهم وإمّا إلى التّخلّي عن المهنة وإمّا إلى الهجرة بحثًا عن صناعة تأويهم وتحقق أحلامهم! هذا غيض من فيض الانهيار الذي يلفّ مجتمعاتنا من محيطها إلى خليجها!
في ظلّ هذا الواقع المعقّد، نجد من واجبنا كمؤسّسة ثقافيّة من المؤسّسات العربيّة التي تعمل على دعم الإبداع، أن نبذل جهدًا في مواجهة هذه التّحدّيّات والحدّ من تأثيرها على السّينمائيّين العرب قدر المستطاع. إنّنا بالتّالي نضع في سلّم أولويّاتنا لهذا العام أمرين أساسيّين:
أولًا، إنتاج “الدّليل الأحمر” وهو دليل للسّلامة والأمان يمكن للسّينمائيّين الرّجوع إليه للاطّلاع على سبل الحماية من معظم المخاطر التي قد تواجههم عند عملهم على إنتاجهم الإبداعيّ. نحاول جهدنا أن يغطّي هذا الدّليل معظم المواضيع الملحّة التي تتعلّق بسلامة المبدعين وفرق إنتاجهم.
ثانيًا، وضع دراسة “لمبادرة صندوق العيش الكريم” وهي مبادرة تسعى لتأمين الحدّ الأدنى من الدّخل الذي يحتاجه المبدعون لعيش حياة كريمة توفّر لهم حماية من العنف الاقتصاديّ وتضمن استقلاليّة فكرهم وتحدّ من هجرتهم لبلادهم (على مستوى لبنان كمرحلة أولى). أنهينا حتى اللحظة العمل على وثيقة دراسة تفصيليّة تحدّد الأسباب الموجبة لإنشاء الصّندوق وطريقة إدارته والمستفيدين منه ونسعى في المرحلة القادمة إلى إطلاق نقاش مع المؤسّسات الثّقافيّة المحلّيّة ندعوها من خلاله إلى تبنّي هذا المشروع.
هذا لا يلغي طبعًا بقيّة التزاماتنا تجاه السّينمائيّين العرب إذ نكمل عملنا على كلّ مشاريع الدّعم التي أطلقناها في السّنوات الماضية، لكنّنا نسعى هذا العام تحديدًا إلى إطلاق “الدّليل الأحمر” إلى جانب “مبادرة صندوق العيش الكريم” وكلّنا آذان صاغية وقلوب مفتوحة لتلقّي أيّ اقتراحات تجدونها مفيدة.
كلّ التقدير والاحترام لشجاعتكم أينما كنتم.
جميع الحقوق محفوظة© 2024 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in
جميع الحقوق محفوظة© 2023 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in