نشرة #3 :: آذار 2022
تعرّضت لتحرّش صارخ… غرقت في جرحها لمدّة ولمّا قرّرت التّحرّر من خوفها، استجمعت ما امتلكت من قوّة وتسلّحت بالعزم ثمّ خرجت إلى النّاس تفضح المتحرّش. هناك لاقتها المدينة بتهمة القدح والذم ونصّبت جلّاديها في السّاحات يحاكمون ضحيّتهم! هناك اصطفّ الجمع من حولها في دوائر واستعدّ النّاس لرجمها ولم يتقدّم منهم رجل يردّ عنها الضّيم ولو برداء. هذا حالها وحال كلّ النّساء.
ليست هذه رواية متخيَّلة من العصور المظلمة بل هي واقع الأمر حقيقة مأساويّة تعيشها معظم نساء الكون بدرجات قد تتفاوت بين مجتمع وآخر، حقيقة يفرضها نظام أبويّ ما زال يتحكّم بمختلف جوانب الحياة. لربّما تراجع تسلّط هذا النّظام قليلًا في المجتمعات التي حقّقت ثورتها الصّناعيّة ليحتجب مختبئًا خلف مظاهر الرّفاهيّة (السّويد مثلًا تحتلّ المرتبة الخامسة في العالم من حيث عدد حالات الاغتصاب)، لكنّه مازال يظهر بصورة أوضح في المجتمعات التي تناضل حتّى اللحظة لتحقيق نموّها داخل نظام نيو ليبراليّ عالميّ متوحّش وجشع، لا يترك لغيره مكانًا تحت الشّمس ويذهب بالكوكب إلى هلاكه.
هذا واقع الحال على امتداد بلادنا العربيّة. كلّما تجرّأت امرأة على فضح واقعة تحرّش تعرّضت لها، هبّ النّظام الأبويّ بكلّ أدواته، الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة والقانونيّة والإعلاميّة وحتّى العلميّة والأكاديميّة والفنّيّة أحيانًا، لإدانتها وتحميلها هي مسؤوليّة الجرم الواقع بحقّها. هو واقع قاتم توثّقه وقائع وإفادات لا تُحصى قد لا يكون آخرها ما ألمّ برشا عزب في مصر، على سبيل المثال لا الحصر.
في القطاع الفنّيّ ليس ما كشفته رشا عزب التي نطقت باسم الضّحايا لتفضح أحد المتحرّشين ، حالة معزولة إذ راحت في السّنوات الأخيرة تظهر إلى العلن حالات تحرّش كثيرة أبطالها مجرمون يعملون في مجال الإبداع الفنّي على مختلف أشكاله، نجزم أنّ ما ظهر منها هو قمّة جبل جليد هائل يطفو في آلاف المآسي. في بحار النّظام الأبويّ القائم تضيع الدّموع وتُدان الضّحايا. في بحار النّظام الأبويّ لا يُسمح للضّحايا بالنّجاة فالنّاجيات يهدّدن أدوات حكم هذا النّظام.
لا تعني النّجاة محو الجرم من الذاكرة فالنّسيان إقفالٌ للجرح على ملحه. على المجتمع مواجهة الجلّاد والجلّاد هنا نظام كامل. عليه فرض العدالة، والعدالة تعني إنزال العقاب بالمجرم. عقاب يمنع المتحرّش من تكرار فعلته ويجعله عبرة لمن تسوّل له نفسه الاعتداء على أيّ امرأة.
من واجبنا تأمين الأدوات اللازمة للشّفاء في مواجهة شاملة مع النّظام الأبويّ. من مسؤوليّتنا في القطاع الثقافيّ العمل على تأمين هذه الأدوات، عمل لا يكتفي بالتّضامن مع ضحايا التّحرّش ويمرّ بدعم سرديتهنّ ونشرها ولا ينتهي بالحثّ على سنّ السياسات والقوانين المناسبة.
في التّضامن يجب علينا في القطاع الثّقافيّ على امتداد العالم وخاصّة في عالمنا العربيّ، أن نبذل مجهودًا أكبر. كم من متحرّش مازال يجد مكانًا له في مختلف النّشاطات الثّقافيّة. كم من متحرّش يتغاضى العاملون في القطاع عن فعلته ويواصلون التّعاون معه. كم من متحرّش تواصل بعض المؤسّسات منحه الجوائز وتدعوه في كلّ حين للمشاركة في نشاطاتها. ندعو لمقاطعة أيّ متحرّش أقلّه حتّى تثبت براءته وهي براءة لا نثق حتّى اللّحظة بقدرة القوانين المعمول بها والقيّمين على تنفيذها، على إثباتها بحياد وعدالة. اعتدنا أن تُدان الضّحايا ليواصل المعتدي اعتداءه!
في دعم سرديّات الضحايا ونشرها لا نجد جهودًا يُعتدّ بها حتّى الآن. لا بدّ من الوقوف في صفّ اللواتي يتعرّضن للتّحرّش ولا بدّ من تبنّي سرديّاتهنّ. لا بدّ من استبدال السّرديّة التي تحمّل الضّحيّة مسؤوليّة جرحها، تلك السّرديّة التي تبني على نظرة متخلّفة للمرأة ككائن فاقد لإنسانيّته لا يقدر على إدارة حياته وجسده واتّخاذ قراراته. لا بدّ من استبدالها بسرديّة تساوي بين النّاس عمومًا وبين الجنسين خصوصًا.
ليست المرأة لنا نصف المجتمع. ليس المجتمع أنصافًا وأجزاء بل وحدة واحدة متكاملة وأيّ علّة فيها تصيب الجميع. المرأة كلّ المجتمع كما الرّجل كلّ المجتمع. هو مجتمع عليل ذاك الذي يمنح فيه الرّجل امتيازات لنفسه، ذاك الذي تُحرم المرأة فيه من أبسط الحقوق ويَحكُم فيه التّمييز باسم القانون أو الدّين أو غيرهما وتسود فيه صور نمطيّة تقطع أيّ مجال أمام العدل والتّسوية بين النّاس. مجتمع كهذا محكوم بالتّخلّف والانقسام.
لا مجال للخروج من انهيارنا المزمن إلّا عبر تحرير المرأة (وكامل المجتمع) من تسلّط النّظام الأبويّ فكلّ ظلم يلحق بالمرأة يعيد إنتاج نفسه كنتيجة حتميّة تُشكّل ثقافة الأجيال القادمة وتصوغ تجاربها. من المستحيل تحقيق أيّ تحرّر لمجتمعاتنا ما لم نتمكّن من تحقيق تحرّر المرأة. معركة التّحرّر من الاستبداد أو الاحتلال لا تنفصل عن معركة تحرّر المرأة في مجتمعاتنا وفي الكون أجمع. نؤمن بذلك ونعمل انطلاقًا منه.
نحن نصدّق الضّحايا وندعم نجاتهنّ ونقف في صفّهنّ، لأنّهنّ لسْنَ نصف المجتمع.
هنّ كلّ المجتمع …
جميع الحقوق محفوظة© 2024 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in
جميع الحقوق محفوظة© 2023 AFLAMUNA | تم تطويره من قبل Beirut in