الصورة من موقع sarahhegazi.org

لا مفرّ من الإنسان

نشرة #6 :: حزيران 2022

“أريد أن أغفو قليلًا،
أن أفقد السيطرة على غفوتي،
وأن يلمسني أحد،
وأقول له بداخلي،
افعل بي ما تشاء،
وما يحلو لك”. ـــ راجي بطحيش، يولا وأخواته.


“كانت هنا فتاة ذات شعر قصير – ترتدي سلسلة عليها فراشة – وتركب دائما بسكلتة تدعى فراولة- وكانت دائمة الجري والتنزه بها! أين ذهبت؟ لقد غابت كثيرًا!” (ساره حجازي، من مذكراتها في سجن القناطر)
في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر من العام 2017 رفعت ساره حجازي علم قوس القزح خلال حفل غنائيّ أحيته فرقة مشروع ليلى في مصر. تمّ اعتقال ساره من بيتها واقتيدت إلى جهة مجهولة حيث قُيّدت إلى كرسيّ معصوبة العينين مُكمّمَة الفم وتعرّضت للضّرب وللصّعق بالكهرباء. أمضت ساره بعد ذلك فترة ثلاثة أشهر في السّجن تعرّضت خلالها من باقي السّجناء وبتشجيع من ضبّاط الشّرطة للاعتداء اللفظيّ والجسديّ. بعد إطلاق سراحها، تمكّنت ساره من الحصول على حقّ اللجوء في كندا حيث عاشت تعاني من اضطرابات ما بعد الصّدمة، مسلوخةً عن وطنها الأمّ منزوعة عن عائلتها، حتى تحوّلت حياتها إلى حمل ثقيل عليها وأصبح العيش لا يُطاق.

بفعل حياتها وموتها المأساويّين، تحوّلت ساره إلى أيقونة لدى مجتمع الميم وصارت ترمز لنضاله ليس في المنطقة العربيّة فحسب بل على امتداد العالم. تستمرّ ذكرى ساره حيّة عبر العديد من الأعمال الفنّيّة والمنصّات الإعلاميّة والموقع الإلكتروني المخصّص لها.

اليوم وبعد عامين على وفاتها يتواصل الاضطهاد.
اليوم، في هذا الجزء من العالم، مازال مجتمع الميم يعيش خوفًا عميقًا. خوف من الاعتقال وفقدان المسكن والوظيفة، خوف من التّعرّض للتّحرّش والعنف في ظلّ استمرار الاعتداءات المناهضة لمجتمع الميم ومرورها أمام أعين السلطات دون أيّ عقاب يُذكر. على العكس من ذلك، فإنّ الشّرطة تلجأ في كثير من الأحيان إلى استخدام أساليب متفلّتة من حكم القضاء، كالاعتقال التّعسّفيّ وسوء المعاملة والفحوصات الشّرجيّة الإجباريّة بالإضافة إلى عدم الاعتراف بجنس الأشخاص العابرين جنسيًّا.

إنّ الوقع الهائل لوصمة العار العائليّة والاجتماعيّة التي يُنزلها المجتمع بأفراد مجتمع الميم يشكّل لهم تحدّيًا ضخمًا، خاصّة في بلادنا العربيّة. يعيش العديد منهم في خوف من إنكار عائلاتهم لهم وتبرّؤ بيئتهم من أيّ علاقة بهم. يعيش العديد منهم في رعب من الألم الذي قد يعانيه أحبّاؤهم بسببهم ولو بصورة غير مباشرة. هذا الخوف الهائل وتلك القوانين الجائرة ووصمة العار العائليّة والاجتماعيّة تلك، تدفعهم إلى اختيار الهجرة كممرّ وحيد إلى قوانين أكثر مرونة من قوانين بلادهم ومجتمعات أكثر تسامحًا من مجتمعاتهم، إلى حيث يمكنهم أن يعيشوا حياتهم بسلام، إلى حيث يمكن لهم أن يواصلوا نضالهم.

يمنح السياسيّون ورجال الدّين وأفراد الأسر والجيران أنفسهم سلطة التّحكم بشعور الآخرين وما قرار وزير الداخليّة اللبنانيّ الأخير بمنع أيّ تجمّعات تخصّ مجتمع الميم إلّا إمعان مقزّز في استخدام السّلطة في غير محلّها. رضخ الوزير لضغوط رجال الدّين وعوضًا عن استخدام السّلطة الممنوحة له من الشّعب لنشر العدل والتّسوية بين البشر قام بالتّأكيد على الطّبيعة القمعيّة للدّين والسّلطة في بلادنا. إنّ التّفرقة بين النّاس على أساس الدّين أو العرق أو الجنس أو الميول الجنسيّة سلاح قاتل يفتك بأيّ فرصة للتطوّر. هذا ما لا يدركه حكّامنا ربّما ومن خلفهم رجال الدّين عندنا وهم جميعهم يصرّون على اعتناق التّخلّف دينًا لهم ولنا.
في لعبة السّلطة والقوّة أصيبت الجماعة البشريّة بالعمى فطوّقت نفسها بقوانين عبثيّة لا معنى لها. في واقع الأمر فإنّ الأمور أبسط من ذلك بأشواط.

الإنسان واحد والحّب واحد أوحد.

قد يعقّد الطّغاة الأمور وينزلون بالبشر الألم ولكن في نهاية المطاف، فإنّ الناس سيختارون الحبّ متى أرادوا. لا مفرّ من ذلك.
إن أراد البشر ممارسة الحبّ فإنهم حتمًا سيمارسونه. إن أرادوا الزّواج والإنجاب فإنّهم سيفعلون ذلك رغمًا عن أيّ قيود مصطنعة ومهما بلغت الجدران من ارتفاع. لا مفرّ من ذلك.

لهذا السّبب تمّ ابتكار “مسيرة الفخر”.
هو موسم يحتفل فيه أفراد مجتمع الميم بذاتهم، بوجودهم، بكرامتهم؛ موسم يختبرون فيه شعورًا عائليًّا حميمًا، شعورًا بالانتماء؛ موسم يتّحِدُون فيه ليواجهوا قوى التسلّط والقمع التي تحاول اسكاتهم وطمس حقيقتهم؛ هو زمن يمكن للمجتمع بأكمله أن يتأمّل خلاله في وسع الحياة المذهل وفي سبل التّواصل والوصل والوصال بين البشر.

على الرّغم من طول الطّريق ومشقّاته وعلى الرغم من كلّ النّكسات التي قد تعيق تقدّم الرّحلة فإنّ أفراد مجتمع الميم في البلدان العربيّة يُبدعون في إسماع صوتهم وإثبات وجودهم. يروون قصصهم ويقاتلون الرّقابة ويخلقون الحركات الاجتماعيّة ويبتكرون أساليب مبدعة لمواجهة الخوف والتّمييز. أعطى بعض الكتّاب العرب أملًا لمجموعات مجتمع الميم السرّيّة في العالم العربي من خلال ما كتبوه من روايات مثل يولا وأخواته لراجي بطحيش وأنا أروى يا مريم لأريج جمال ورجل من ساتان لصهيب أيوب. من المهمّ بمكان أن يناضل القطاع الإبداعيّ في سبيل حرّية التّعبير وأن يقاتل لكسر المحرّمات في الثقافة العربيّة عبر معالجته لمواضيع كالنّوع الاجتماعيّ والجنسانيّة. في واقع الأمر لطالما سلّط المخرجون العرب رغم تعرّضهم للاضطهاد الضّوء على مواضيع كهذه. واجه المخرجان المصريّان صلاح أبو سيف ويوسف شاهين انتقادات بسبب أفلام كفيلم حمّام الملاطيلي (1973) وفيلم باب الحديد (1958). اليوم، يواجه الجيل الجديد من المخرجين العقبات نفسها ولكنّهم يواظبون على رفع الشّعلة عاليًا.

يمكن لقراءة رواية أو مشاهدة فيلم أو التّفاعل مع أيّ عمل فنّيّ آخر يحمل قصّة مألوفة لدى المتلقّي، يمكن لأيّ فعل من هذه الأفعال، أن يغيّر بحياة شخص ما من مجتمع الميم. من المشجّع للعزيمة أن تلتقوا أخيرًا بقصّة تشبه قصّتكم، أن تقفوا أمام شخصيّة وكأنّكم تقفون أمام المرآة. شيء مذهل ما، شيء من تجلٍّ، يأتيكم على حين غرّة وبعد طول انتظار، ليشعل فيكم ذاك الإدراك المريح: نحن، ربّما، لسنا وحدنا. لسنا ربّما، تلك الوحوش التي في عيونهم. نحن، ربّما، ورغم كلّ شيء، من جنس البشر. من صلب الإنسان.

لذا، في شهر الفخر هذا، فلنرفع رؤوسنا عزًّا، فلنتشجّع ولنقف وقفة واحدة نرفع فيها الصّوت عاليًا.
فلنقف تكريمًا لأولئك الذين وضعوا قلوبهم على أكفّهم وواجهوا الموت وما فرّطوا أبدًا بحقيقتهم؛
تكريمًا لتلك الأمّ وذاك الأب اللذين وقفا في وجه الجميع، بفعل الحب الذي يكتنزانه، تحدّيًا لما هو سائد؛
لأولئك الذين يرزحون تحت ألف سلسلة وقيد؛ هذه ليست النّهاية.
للأطفال. للبنات والبنين وما بينهما.
للحبّ، للشّجاعة، للحرّية؛
لكلّ تيك الملائكة وللأمل بعدالة ستسود في يوم من الأيّام.
نقول لا مفرّ من هذا.
لا مفرّ من الإنسان.