صورة من فيلم “لوبيا حمراء” إخراج ناريمان ماري 

قد يبدو الأمر مستحيلًا حتى يتحقّق

نشرة #4 :: حزيران 2024

تزامنًا مع ذكرى استقلال الجزائر في الخامس من حزيران، تعرض أفلامنا أونلاين الفيلم الجزائريّ “لوبيا حمرا” لناريمان ماري (من 27 حزيران وحتّى 10 تمّوز). يروي الفيلم قصّة أطفال متمرّدين يتمتّعون بخيال خصب ويقومون بسرقة الطّعام من قاعدة فرنسيّة بالتّزامن من هزيمة الاستعمار أمام حركة التّحرّر الوطني التي أطلقت ثورة التّحرير عام 1954. 

 

طبعًا يعرف الكثير منّا ثورة التحرير التي دامت لسبع سنوات وأدّت إلى الاستقلال بعدما دفعت حوالي مليون شهيد. هكذا يعرف العرب الجزائر، كبلد المليون شهيد، لكنّ ما لا يعرفه الكثير من النّاس هو أنّ الجزائر دفعت هذا العدد من الشّهداء خلال سبع سنوات فقط، أي منذ انطلاق الثورة حتى الاستقلال في الخامس من حزيران عام 1962!  في واقع الأمر فإنّ بعض الدراسات التي تحتسب نسبة افتراضيّة للولادات والوفيّات تقدّر أنّ الاستعمار الفرنسي للجزائر قد يكون قد قتل ما يتراوح بين سبعة وتسعة ملايين جزائريّ، منذ بداية الاحتلال عام 1830 في واحدة من أبشع حركات الاستعمار الإحلاليّ في العصر الحديث. 

 

في خطوة أولى أعلن الفرنسيّون الجزائر أرضًا فرنسيّة عام 1832 ثمّ راحوا بعدها يقتلون قبائل بأكملها،  أحرقوا المحاصيل والأشجار والقرى ممّا تسبّب بمجاعة كبرى قضت على مئات الآلاف من الجزائريّين (بناءً على مذكّرات الجنود الفرنسيّين). 

 

هكذا، بعدما استتبّ الأمر للفرنسيّين وتأكّدوا من تراجع أعداد السّكّان الأصليّين، انتقلوا إلى المرحلة الثّانية من مشروعهم الاستعماريّ الإحلاليّ فبدأوا باستدعاء الأوروبيّين  من مختلف الجنسيّات إلى الجزائر لاستيطانها وسنّوا القانون المعروف “بقانون الأهالي” الذي يسمح لكلّ مستوطن أوروبّي  بالاستيلاء على أيّ أرض يريد على أن يعمل أهل الأرض الأصليّين لديه مقابل حصولهم على خمس المحصول فقط (يمنع القانون الجزائريّين من زراعة أرضهم ويحوّلهم لمجرّد عمّال).

 

  في مرحلة ثالثة وموازية، منع الفرنسيّون تعليم  لغات السكان الأصليّين واستبدلوها بلغتهم في محاولة لتحويل البلاد عن ثقافتها. قادوا حملة “فرنسة” البلاد معتبرين ثقافتها ثقافة متخلّفة نافيين عنها صفتها الحضاريّة. رغم فرنسة البلاد، فإنّ شعار الحرّيّة والإخاء والمساواة لم يطبّق إلّا على المستوطنين الأوروبّيين فيما تمّ نفي السّكّان الأصليّين إلى أحياء معزولة! (عام 1917 وصل عدد السّكان الإجمالي إلى 2.5 مليون مع ارتفاع أعداد المستوطنين الأوروبّيّين إذ وصلت نسبتهم في وهران مثلًا إلى 70%). 

 

خلال الحرب العالميّة الثّانية طلبت فرنسا من الجزائريّين القتال إلى جانبها مقابل وعد بالاستقلال. مع انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء نكث الفرنسيّون بالوعد ونكّلوا أبشع تنكيل بالجزائريين في سلسلة بشعة من المجازر.  أُعلِنت ثورة التّحرير عام 1954 واستمرّت حتى  الاستقلال وطرد الاستعمار. 

في غضون ثلاثة أشهر غادر نحو مليون مستوطن أوروبيّ البلاد طوعًا ولم يبق منهم إلّا حوالي 40 ألفًا اختاروا البقاء وفقًا لشروط الدّولة الجزائريّة. فشل المشروع الاستعماريّ الإحلاليّ الفرنسي في الجزائر بعد 130 سنة من انطلاقه!

 

اليوم، لم يبقَ على وجه الكوكب، بعد فشل المشاريع الاستعماريّة الإحلاليّة في أفريقيا وخاصّة في الجزائر وجنوب أفريقيا، إلًا حركة استعماريّة إحلاليّة نشطة واحدة! المشروع الغربيّ الصّهيونيّ في فلسطين. ليس هذا المشروع بمختلف عمّا سبقه من مشاريع في الأميركيّتين وأستراليا ونيوزيلندا والجزائر وجنوب أفريقيا وكينيا وزيمبابوي وناميبيا وغيرها (بعضها نجح وبعضها فشل). كلّ هذه المشاريع اعتمدت الأسلوب نفسه: إبادة السّكّان الأصليّين وتطهير الأرض منهم (Genocide) ثمّ نفي صفة الإنسانيّة عنهم واستبدال ثقافتهم بثقافة المستعمِر (إن لم تتحقّق الإبادة تمامًا) (Dehumanization)، ثمّ عزل ما تبقّى من السّكّان الأصليّين عن المستوطنين الجدد (Apartheid). 

نظرة سريعة على التّجربة الجزائريّة تفيد بمسار مشابه للتّجربة الفلسطينيّة إن من حيث أساليب الاستعمار أو من حيث مقاومته ونضال سكّان الأرض الأصليّين. بدأ المشروع الصهيونيّ بالإبادة واستدعاء مستوطنين غربيّين وإحلالهم محلّ الفلسطينيّين وترافق مع نزع صفة الإنسان عنهم ثمّ الانتقال إلى الفصل العنصريّ بعد فشل الإبادة التّامّة  تمّت محاصرة الفلسطينيّين خلف جدران الفصل العنصريّ وجرى استخدامهم كعمالة رخيصة وقطع الماء والغذاء عنهم إلًا بما يسمح به نظام الاستعمار، فيما يستكمل الصّهاينة استيطان الأرض التي يطردون سكّانها منها أو يقتلونهم وتتمّ شرعنة كلّ هذا عبر سنّ الاستعمار لقوانين تبرّر أعماله (تمامًا كما فعلت فرنسا في الجزائر). 

 

يخوض الفلسطينيّون مخاض نضال خاضه الجزائريون  من قبلهم وتكاد تكون التّجربة مستنسخة. 

أليس التّجويع الذي يمارسه الاستعمار في فلسطين هو نفسه الذي مارسه في الجزائر؟ يحيلنا فيلم لوبيا حمرا إلى تلك الفترة من تاريخ الجزائر ويفتح العين على ذاكرة ليست ببعيدة ولم يندمل جرحها بعد. ناضل الجزائريّون على مدى 130 سنّة وحقّقوا استقلالًا لربّما بدا تحقيقه يومها مستحيلًا. 

“قد يبدو الأمر مستحيلًا حتى يتحقّق”، قالها يومًا المناضل الراحل نلسون مانديلّا.