صورة جماعية – 0069fa00047، 0069fa – مجموعة المؤسسة العربية للصورة، بيروت

"قاعدين لهم!"

نشرة #5 :: أيار 2022

“من يتحكم بالماضي يتحكم بالمستقبل”
“-أين يتواجد الماضي، إن وُجد؟
في السجلّات. يُدوّن.
في السجلّات. وفي -؟
في العقل. في ذاكرة الإنسان.
في الذاكرة. حسنًا اذًا. نحن، الحزب، نتحكّم بجميع السجلّات، نتحكّم بكلّ الذاكرات.”
– جورج أورويل، 1984

تتطلّب السّيطرة على العقول، تحوير السردّية وتشويه الحقيقة.
في عالمنا العربي، تبدأ استراتيجيّات غسل الأدمغة من المناهج التعليميّة، حيث تُحكم الدولة قبضتها على كلّ كلمة في كتب التاريخ، وتقدّم الرّواية التي تخدم أهدافها، تمامًا كما هي الحال في لبنان، إذ أُخفيت كامل المعلومات المتعلّقة بالحرب الأهليّة عن تلاميذ المدارس. يفتقر جيل الشّباب للمراجع الموثوقة وللمعلومات الدّقيقة التي تتيح له الاطّلاع على أحداث الماضي ليتمكّن من بناء مستقبل أفضل. لا تشجّع النّظم الاستبداديّة الحرّيّة ولا تحثّ على تحقيق الذات، بل تقدّم عوضًا عن ذلك مناهج تعليميّة تروّج من خلالها لمعلومات مضلّلة وتستخدمها للتّدريب على الخضوع.

في سعيها لإتقان الحرب على الحقيقة، لا تتردد الأنظمة الاستبداديّة أبدًا في استخدام مختلف آلياّت القمع وأهمّها: محو الذاكرة.
عندما انتهت الحرب الأهلية في لبنان وانتقل أمراء الحرب من الجبهات إلى مكاتبهم الفخمة، ولكي يتمكنّوا من بسط حكمهم إلى الأبد، كان من الضروريّ لهم أن يُنسونا حقيقتهم، فقرّروا إعادة بناء المجتمع على صورتهم الجديدة. دفنوا بزّاتهم العسكريّة بالقرب من ضحاياهم – فيما يواصل ذوو الضحايا انتظار أبنائهم – في مقابر جماعية تحت المدينة لينتقلوا بعد ذلك إلى دفن المدينة بأكملها وليبنوا فوقها أخرى تناسبهم. وسط بيروت، مركز العاصمة، بمبانيه وأسواقه وساحاته وتنوّعه، تمّ محوه بالكامل. هُدمت المباني والمحال وشُيّدت أخرى جديدة لأصحاب الملايين وللأشباح. أُزيلت آثار الحرب ومُحيت آثار الإنسانية وتمّ إنشاء مدينة مزيّفة تبدو وكأنها صيغت من مجسّمات قصّاصات الكرتون لتتماشى مع تسريحاتهم المتباهية وأحذيتهم اللمّاعة. تمّ تجديد مطار بيروت وإعطاؤه لاحقاً اسماً جديداً وإنشاء طريق سريع ضخم يؤدي إلى وسط المدينة الجديد الذي بات يُشار إليه باسم مؤسسة تجاريّة، طريق تمّ رفعه 20 مترًا فوق سطح الأرض، بحيث لا يرى المسافر شيئًا سوى السّماء قبل أن يدخل “مدينة باربي”. أمّا الشّوارع التي مرّ الطّريق فوقها، فألغيت بأكملها، بكلّ سكانها وثقافتها واقتصادها.

ثم شُنّت الحرب على المنازل والمباني التراثية، التي استُبدلت بمبانٍ شاهقة لا يستفيد منها إلّا عدد قليل من حيتان المال الحاكمين ومن حاول المقاومة ورفَضَ البيع، حُجب امتداد الرّؤية عنه، وأُغلقت مداخله وعُبث ببنيته ​​التحتية وقُطع عنه الهواء، إلى أن أُجبرت الطّبقة الوسطى والفقراء على الخروج من العاصمة.

يريدون إعادة تأليف التاريخ كما يحلو لهم، يريدون امتلاكه، يريدون سرقة ماضينا وعندما نبذل قصارى جهدنا للشّفاء من صدماتنا، يُقال لنا أنّ الشّفاء إنّما يفرض علينا التعامل مع الماضي. لكن كيف لنا أن نفعل ذلك والماضي يكرّر نفسه في حاضرنا؟

لا يمكن للطغيان أن يستمرّ إلّا من خلال الخوف. لقد طوّرنا فعلًا قدرات مميّزة على النّجاة والبقاء. تعدّدت الكوارث على مدار سنوات طويلة حتى أضحت “طبيعية” ولكأنها حدث بسيط من أحداث الحياة اليوميّة. علينا ربّما أن نذكّر أنفسنا باستمرار بأنّ ما نعيشه يوميّا ليس حياة طبيعيّة. هذه الفظائع فظائع مفتعلة. هذه المخاوف وتلك الأمراض وهذا الشّعور بانعدام الأمن إنّما يخلقها حكّام ساديّون من أجل السيطرة على عقولنا وتقييد أرواحنا.

لماذا نقبل بالنّسيان؟ ألأنّنا نريد أن نكون “طبيعيّين”؟ أم ربّما لأنّ الخضوع يزيح عنّا صفة الجنون ونحن نسعى جاهدين للتّمسّك بصفة العقّال؟ نقول كما قلنا سابقًا، لا شفاء بدون عدالة ومجرّد الصّمود أمام الاستبداد من دون إزالته نهائيّا ليس إلّا شكلًا من أشكال الخضوع.
لربّما دفع انفجار مرفأ بيروت، على الرّغم من الأضرار الجسيمة التي سبّبها على جميع الأصعدة، الشعب اللبناني أخيرًا إلى إدراك ذلك، فشهدنا نتائج انتخابات غير مسبوقة. إنّ التغيير الفعليّ ما زال بعيداً والطريق إليه طويلًا ويتطلب الصبر لكنّ بصيص الأمل هذا إنّما يدفعنا للمضي قدماً.

إنّ وحشية النظام العالمي الرّأسماليّ تدمّر مجتمعاتنا وتراثنا وثقافتنا وتمحو الأماكن المشتركة وساحات المدن حيث يجتمع الناس على اختلاف انتماءاتهم وخلفيّاتهم. علينا أن نستعيد تلك الأماكن، أماكن الاندماج والوحدة، علينا أن نذكّر بعضنا ونذكّر الجميع بأنها ملك للشعب بكل تنوّعاته.

هل اعتقدوا حقًا أن بإمكانهم قتل الذاكرة؟

في هذا المكان كانت حقيقة.
كان لهذا المكان روح.
هنا كانت أحلام.

هم يقدرون ربّما على تدمير البنيان لكنّهم لن يتمكّنوا أبدًا من محو الحقيقة، لن يقدروا على قمع الأحلام، لن يقدروا على قتل الرّوح ما دمنا نرفض النّسيان والاستسلام.

نحن لن نستسلم.
نحن لن ننسى.
وكما قالت الشهيدة شيرين أبو عاقلة “قاعدين لهم”!