خوارزميّات الاستبداد

نشرة #9 :: أيلول 2022

بداية أيلول طلبت دول مجلس التّعاون الخليجيّ (السّعوديّة والإمارات والكويت والبحرين وقطر وعمان) من شبكة نتفلكس إزالة محتوًى اعتبرته “مُهينًا”. في بيان تبعه آخران من السّعوديّة والإمارات، اعتبرت هذه الدّول أنّ بعض البرامج التي لم تحدّدها “تتناقض مع القيم والمبادئ الإسلاميّة والاجتماعيّة”! في حين أنّ دول مجلس التّعاون لم تحدّد برامج بعينها فإنّ نظرة سريعة على الشّاشات النّاطقة باسم هذه الدّول وخاصّة السّعوديّة منها، تشي بأنّ ما يغيظ أنظمة هذه الدّول هو تحديدًا ذاك المحتوى الذي يتعلّق بمجتمع الميم. قبل أيّام من بيان دول مجلس التّعاون كان نائب في البرلمان المصريّ قد تقدّم بسؤال لدى وزارة الثّقافة حول ما اعتبره تقاعسًا من قبلها في فرض الرّقابة على منصّة نتفلكس للأسباب عينها التي دفعت بدول مجلس التّعاون الخليجيّ إلى التّهديد المبطّن بحظر المنصّة. بعد يوم من إصدار البيان الخليجيّ أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر مجموعة ضوابط “اجتماعيّة وقيميّة” يُفترض بمنصّات البثّ أمثال نتفلكس وديزني أن تلتزم بها. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ حملة الرّقابة هذه لا تقتصر على العالم العربيّ، بل نجد مثيلًا لها هذا العام في الصّين التي قامت عدّة قنوات بثّ تدفّقيّ فيها بحذف حوارات تشير إلى مجتمع الميم من بعض مشاهد سلسلة “الأصدقاء” (Friends). من ناحيتها أصدرت هنغاريا تشريعات تحظّر “التّرويج” لكلّ ما يتعلّق بمجتمع الميم ومنعت هيئة الرّقابة في ماليزيا عرض بعض الأفلام التي تتناول الموضوع (ولو بشكل غير مباشر) فيما تدخّل الرئيس التّركي شخصيًّا لحذف بعض المشاهد من مسلسل تركيّ أنتجته نتفلكس عام 2020.

إن كنّا حتّى اللّحظة نظنّ أنّ الأفلام التي تُعرض على منصّات البثّ التّدفّقيّ قد أفلتت من مقصّ الرّقابة، فإنّ هذه الحملة على هذه المنصّات إنّما تؤشّر إلى نيّة العديد من أنظمة الحكم توسيع نطاق رقابتها على الإنتاج الفنّيّ والأدبيّ وربّما حتّى المعرفيّ لتشمل منصّات البثّ على شبكة الانترنت. نحن أمام إحكام لسيطرة الأنظمة الحاكمة (ومعظمها، على امتداد العالم، لا تُنتجها عمليّة ديمقراطيّة حقيقيّة) على كلّ مفاصل الإنتاج الإبداعيّ بدءًا من كتابة النّصّ وصولاً إلى التّوزيع. لا تملك هذه الأنظمة أن تفرض رقابتها على منصّات البثّ التّدفّقيّ لأن غالبيّة المنصّات تعمل خارج نطاق سيطرة هذه الأنظمة ولا تخضع لقوانينها. يبقى أمام التّسلّط أن يمارس ما أمكن من ضغوط لحذف محتوًى ما أو منع المنصّات المعنيّة من البث نهائيًّا داخل أراضي الدّولة وهذا ما قد يحصل. إذا ما نظرنا إلى عدد مشتركي نتفلكس وحدها في العالم العربيّ نهاية عام 2021 (9.49 مليون مشترك) يمكن أن نقدّر حجم الضّغط الذي يمكن للدّول أن تمارسه على هذه المنصّة وغيرها إذا ما هدّدت بمنعها من البثّ (من المقدّر أن يرتفع عدد مشتركي نتفلكس في العالم العربيّ إلى 21.5 مليون مشترك مع حلول العام 2027). سيؤثّر هذا بشكل كبير على أرباح المنصّة وهي بطبيعة الحال منصّة تبتغي تحقيق ما أمكن من أرباح.

لقد تطرّقنا إلى موضوع الرّقابة مرارًا وتكرارًا حتّى تعب اللّسان وأصبح التّكرار مملًّا، لكنّنا نجد اليوم توسّعًا مستجدًّا في أساليب الرّقابة ووسائلها. تتحجّج معظم الدّول التي تحاول اليوم فرض رقابة على أفلام منصّات البثّ بسببين اثنين يدفعانها للتّوسّع في فرض الرّقابة: تستنجدُ أوّلًا بمبدأ “سيادة الدّول” ثمّ تدّعي ثانيًا أنّ مجتمعاتها لن تقبل بمحتوًى تتذرّع بأنّه يمسّ تقاليد هذه المجتمعات ويهدّد أمنها الاجتماعيّ. نرى في السّببين المذكورين حججًا واهية تلامس السّخافة وتنمّ عن جهلٍ خطير. لا بدّ هنا من التّأكيد على أنّ هؤلاء الحكّام القائلين بمبدأ “سيادة الدّول” إنّما يتخلّون عن سيادة دولهم متى تطلّب الأمر الحفاظ على تسلّط سلطتهم والأمثلة كثيرة لا تتّسع لها هذه الأسطر القليلة. لا يجوز تسخير مبدأ السّيادة في خدمة سياسات القمع والسّيطرة على العقول. من يخاف على السّيادة عليه أن يؤمّن لشعوبه كلّ أسباب السّيادة وفي طليعتها العلم والمعرفة وحرّيّة التفكير والإبداع فمن سُلبَ منه التّفكير وقع في ضعف سيتسبّب حتمًا بسقوط السّيادة. من أسباب القوّة الإبداع ونحن في ظلّ سياسات هذه الأنظمة (بالإضافة إلى سياسات الدّولّ العظمى التوسّعيّة وتسلّطها على ثروات الكوكب بالحرب والاحتيال والاحتلال) نكاد نعجز عن إنتاج المعرفة، فكرًا وأدبًا وفنًّا وصناعة وتكنولوجيا. أيّ سيادة تبقى إن كنّا لا نملك السّيادة على عقولنا؟
هذا في السّبب الأوّل. أمّا السّبب الثاني، أي الدّفاع عن التّقاليد وصيانة المجتمع بحسب ادّعاء أنظمة الحكم، ففيه الطّامّة الكبرى. ليست التّقاليد خيرًا أو شرًّا، بل مفاهيم محايدة يمكن أن توصف بالسّلبيّة أو الإيجابيّة. أيّ تقاليد تحمي هذه السّلطة؟ أتقليد تناقل الحكم ضمن العائلة الواحدة أم تقليد الجلد وقطع الرّؤوس وبتر الأعضاء أم تقليد التّكفير ومنع الزّواج العابر للطّوائف أم تقليد الأخذ بالثّأر أم تقليد التّسلّط على حياة النّساء وختانهنّ وإلى ما هنالك من تقاليد بالية مدمّرة؟ أم هي تحمي ربّما تقاليد مساعدة الفقراء وإيواء المشرّدين والرّفق بالأيتام وتجنّب العنف وحبّ الآخر والمساواة بين المؤمنين (وغير المؤمنين!) إلخ؟ … ماذا فعلت هذه الأنظمة للتّخلّص من التّقاليد البغيضة وتشجيع الحميدة منها؟ هل من داعٍ للإجابة؟ تعوّدنا نفاقها ونعرفها خير معرفة ولا نصدّقها ولا نثق بها. إنّ الادّعاء بأنّ مجتمعاتنا تتعرّض لهجوم يستهدف التّقاليد والقيم (إن صحّ ذلك)، لا يستدعي فرض المزيد من الرّقابة والتّسلّط على الإبداع، بل على العكس من ذلك تمامًا. على هذه الأنظمة لو امتلكت حقًّا نيّة حماية مجتمعاتها وتطويرها، أن تؤمّن لناسها كلّ وسائل المعرفة وتطلق حرّيّة التّفكير إلى أقصى مدى لكي تتمكّن هذه الشّعوب من مواجهة تلك “الهجمة” وردّها. من لا يمتلك المعرفة لا يقدر على الإبداع ومن لا يقدر على الإبداع لا يقدر على المواجهة. معادلة بسيطة!
السّبب الواضح إذًا هو رغبة الأنظمة باستكمال السّيطرة على كلّ تعبير فنّيّ ثقافيّ وتوظيفه لخدمة مصالحها الخاصّة. إلى جانب ذلك قد يكون هنالك سبب آخر غير معلن وهو يرتبط بطبيعته بالرغبة في إحكام التّسّلط. تمتلك بعض هذه الأنظمة منصّات بثّ تّدفّقيّ خاصّة بها وهي تتعرّض لمنافسة شديدة من منصّات أخرى والفارق الكبير بين أرقام المشتركين في كلّ منصّة من المنصّات يشير إلى فرق شاسع في أعداد المشتركين لمصلحة المنصّات غير التّابعة للأنظمة. عين الأنظمة إذًا على أمرين: زيادة أرباح منصّاتها والتّحكّم بما يشاهده مواطنوها تحكّمًا كاملًا. إلغاء المنصّات المنافسة من الوجود لتحقيق أرباح ماليّة والتّسلّط على عقول النّاس من خلال السّيطرة الكاملة على مضمون ما يشاهدون.

نحن طبعًا لسنا في صدد الدّفاع عن أيّ من منصّات البث، فلكلّ منها عيوبها.
باختصار، فإنّ الخوارزميّات التي تستخدمها معظم المنصّات لاقتراح محتوًى ما على مشاهديها تبقى خوارزميّات قاصرة عن فهم توجّهات المشاهد وهي تدفع عن قصد أو عن غير قصد إلى تشجيع التّطرّف في الفكر والفعل. إن كنتم في الفكر تميلون إلى اليسار مثلًا وقمتم لمرّة أو أكثر بشاهدة أفلام تتناسب مع توجّهاتكم فإنّ الخوارزميّات المستخدمة ستقترح عليكم مضمونًا يشبه هذه التّوجّهات وستحجب عنكم ما يتناقض معها، والعكس صحيح إن كنتم على يمين المشهد. ستحجب هذه الخوارزميّات الرّأي الآخر ممّا يؤدّي إلى توجيه المعرفة باتّجاه واحد ويحدّ من إمكانيّة التّفكير المستقلّ ويزيد من التّطرّف ويمنح المنصّات قوّة هائلة في التّحكّم بخيارات الرّأي العامّ. كيف جرى انتخاب دونالد ترامب مثلًا وكيف أُسقط لاحقًا وهل تحكّمت الخوارزميّات بخيارات النّاخبين؟ تُستخدم الخوارزميّات اليوم على نطاق واسع يكاد يشمل كلّ شيء، من اختيار الموظّفين إلى التّحقيقات الأمنيّة إلى الصّناعة العسكريّة إلى توجيه الإعلانات على شبكات التّواصل إلى الحملات الانتخابيّة إلى المال والأعمال والتّجارة والبورصة، إلخ. كلّ شركات وول ستريت مثلًا تستخدم خوارزميّات ذات سرعة هائلة في عمليّات بيع وشراء الأسهم والبضائع وتحقّق بفضلها أرباحًا طائلة، لكنّها خوارزميّات تبقى قاصرة ومعرّضة لارتكاب الأخطاء (على سبيل المثال لا الحصر، اختفت من سوق البورصة في وول ستريت مؤخرًا مئات ملايين الدولارات بسبب خلل في عمل الخوارزميّات ولا يعرف أحد حتّى اليوم أين تبخّرت هذه الأموال). يواجه العالم اليوم مأزقًا كبيرًا يتعلّق بأخلاقيّات استخدام الخوارزميّات وبيانات النّاس على شبكة الانترنت. في شهادتها أمام البرلمان البريطانيّ اعترفت بريتاني كايزر المديرة السّابقة في شركة كامبريدج أناليتيكا بدور الشّركة في انتخاب دونالد ترامب وفي خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّي (من خلال الحصول على بيانات تخصّ الملايين من مستخدمي فايسبوك ومخاطبة كلّ شخص منهم بإعلان خاصّ به على مختلف وسائل التّواصل الاجتماعيّ). أوصلت الشّركة ترامب إلى مكتب الرّئاسة وأخرجت بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّي وأثّرت على انتخابات العديد من بلدان العالم النّامي . المدهش في شهادة كايزر حقًّا قولها بأنّ الحكومة البريطانيّة تصنّف التقنيّات التي استخدمتها الشركة في توجيه النّاخبين، كسلاح! تكتيكات تواصل مصنّفة كسلاح! فلنتأمّل مليًّا بهذا التّصنيف. هذا موضوع هائل والحديث به يطول وقد نتطرّق إليه لاحقًا، ما يهمّنا هنا هو تأثير الخوارزميّات في مجالنا الثّقافيّ وخاصّة ضمن عمل منصّات بثّ الأفلام.
تستخدم نتفلكس اليوم مثلًا برنامجًا خوارزميًّا تسمّيه “الفوضى الواقعيّة” (Pragmatic Chaos). يختار البرنامج 60% من الأفلام التي سيشاهدها فرد معيّن. يمكن تسمية هذه العمليّة بفيزياء الثّقافة أو رياضيّات الثّقافة! هنالك برامج خوارزميّة اليوم تتحكّم بثقافة النّاس، وهذه البرامج صنعها بضعة أفراد جلسوا خلف مكتب ما في مكان ما على الكوكب. في هذه الأثناء يجتمع بضعة أفراد، خلف مكتب مرصّع بالذهب، في أماكن مختلفة من عالمنا العربيّ ويقرّرون أنّ أفضل طريقة لمواجهة ما يسمّونه “بالغزو الثّقافيّ” هي في فرض المزيد من القمع والتسلّط! هل من تخلّفٍ كهذا؟ تتجاهل أنظمتنا قدرة الخوارزميّات على التّأثير في ثقافة النّاس وتختار التّركيز على مراكمة الأرباح وفرض المزيد من التسلّط على التّفكير. العالم سبقنا بأشواط وأنظمتنا تغرق في غيبوبة. بيّنت دراسة نشرت عام 2006 لمنظمة اليونسكو أن نسبة الإنفاق في العالم العربي من الإنفاق العالمي على البحث العلمي بلغت (0.2%) فيما تنفق إسرائيل (0.7%) أي أربعة أضعاف العالم العربي لدولة لا يصل عدد سكانها إلى 5% من سكّان العالم العربي، بينما زاد إنفاق الصّين مثلًا إلى (8.7%).
إنّما تشير هذه الأرقام إلى عدم اكتراث أنظمة الحكم في العالم العربيّ بتوفير المعرفة لمواطنيها، والمعرفة اليوم … قوّة.

كان لنا يومًا في بغداد قبل غزو المغول مركزًا للمعرفة. أين نحن اليوم؟
كيف نستردّ قوّتنا؟
كيف نعود إلى المشاركة في الإبداع الإنسانيّ؟
كيف نشارك في صياغة عالم نريده عادلًا قائمًا على مبدأ التّعاون بدلًا عن المنافسة الهدّامة؟
هل نُنتج يومًا خوارزميّات تفتح المعرفة أمام البشر أجمعين؟
علينا ربّما أن نستردّ الحكم من أنظمة التّخلّف والقمع أوّلًا!