إن رأيتموني فابكوا

نشرة #8 :: آب 2022

“إن رأيتموني فابكوا”…
هذا نقش قديم باللغة الألمانيّة ظهر على حجر في حوض نهر “ألبه” على الحدود بين ألمانيا وجمهوريّة التشيك بعد تراجع المياه إلى مستويات خطيرة. كشف الجفاف الذي لم تشهد له أوروبا مثيلًا منذ أكثر من 500 عام عن الكثير من هذه النّقوش التي سُمّيت بحجارة الجوع، في إنذار مخيف من أجيال مضت لأجيال ستأتي وها قد أتت.
“ستزدهر الحياة مرّة أخرى بمجرّد اختفاء هذا الحجر” يقول نقش آخر ولكن هل حقًّا ستعود الحياة إلى الازدهار هذه المرّة؟ يفيد أحدث تقرير صادر عن المرصد العالمي للجفاف بأن 47% من القارّة الأوروبيّة يعاني من الجفاف و17% أخرى تسير بسرعة نحوه. في الولايات المتّحدّة تراجعت نسبة المياه في بحيرة ميد في ولاية أريزونا مثلًا إلى 27% من قدرة البحيرة التّخزينيّة وضرب الجفاف المناطق التي تحيط بها وراحت تتحوّل إلى أراضٍ قاحلة. هذه أمثلة من آلاف.
ها هي الكارثة البيئيّة إذًا تضرب تلك البلاد التي لطالما أطلقت على نفسها تسمية دول “العالم الأوّل”، لعلّها تتفكّر فتلتزم بجدّيّة بتطبيق اتّفاق باريس للحدّ من الاحتباس الحراريّ! لا مؤشّرات جدّيّة على ذلك حتّى الآن بل على العكس من ذلك فإنّ بعض الدّول وفي ظلّ الصّراع مع روسيا تعود إلى استخدام الفحم الحجري كمصدر لإنتاج الطّاقة!

نحن نعيش اليوم عصرًا من التغيّر المناخيّ يكاد يهدّد الحياة على الكوكب. تكاد المؤشّرات على ذلك لا تحصى وليس آخرها مشاهد احتراق الغابات في اليونان وإسبانيا ولبنان وسوريا والجزائر وغيرها من البلدان على امتداد المعمورة. هنا تحترق الغابات بفعل الاحتباس الحراريّ والجفاف، أمّا في البرازيل مثلًا فتُحرق غابات الأمازون عن سابق تصوّر وتصميم بغية زراعة محاصيل هائلة من الصّويا، أي الغذاء الأساسيّ اللازم لإنتاج اللحوم، تلك اللحوم التي لا يأكلها إلا قلّة محظيّة من البشر تقدر على تحمّل كلفة إنتاجها المذهلة (مادّيًّا وبيئيًّا) بينما ينام 829 مليون إنسان على جوع ومنهم من يموت لأنّهم لا يجدون ما يأكلون، لا قمحًا ولا صويا ولا غيرها من الحبوب، فيما يذهب ثلث إنتاج العالم من الغذاء إلى جبال النّفايات المكدّسة (34 مليون إنسان في 38 دولة سيموتون جوعًا ما لم يتلقّوا مساعدات فوريّة طارئة).

هنالك العديد من الظواهر التي تنذر بالكارثة، من ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد في القطبين واكتشاف ثقب جديد ضخم في طبقة الأوزون فوق المنطقة الاستوائيّة وهو أكبر بسبع مرّات من الثقب المعروف في القطب الجنوبيّ، إلى موت الشّعاب المرجانيّة المسؤول الأساسيّ عن إنتاج الأوكسيجين وموطن ربع الكائنات الحيّة (مات منها 14% و99% ممّا تبقّى يواجه خطر الموت)، إلى اختناق المحيطات والبحار بالبلاستيك، إلى انقراض 27 ألف نوع من الكائنات الحيّة كلّ سنة واختفاء 80% من أنواع الحشرات حتى اللحظة إلى ما هنالك من فيضانات وأعاصير وغيرها من الظواهر المدمّرة.
لا مجال هنا لذكر كلّ ما يتهدّد الحياة تحت الشّمس، لكن تبقى ظاهرة خطيرة يجدر ذكرها، ظاهرة لا يعرف بها الرّأي العامّ كما يجب حتّى اللحظة، ظاهرة التّصحّر وموت التّربة الصّالحة للزّراعة.
حتّى اليوم فقد الكوكب 52% من تربته المنتِجة للغذاء وبعد 20 سنة من الآن سيتراجع إنتاج الغذاء بنسبة 40% فيما سيصل عدد سكّان الأرض إلى 9.3 مليار نسمة علمًا أنّ مستوى المغذّيات في الفواكه والخضار التي ينتجها البشر اليوم تراجع بنسبة 90% وذلك بسبب افتقار التّربة إلى الموادّ العضويّة في معظم الأراضي الزّراعيّة، أضف أنّ افتقار التّربة إلى هذه الموادّ يجعلها تعجز عن امتصاص المياه وتخزينها ممّا يتسبّب بهدرها ويهدّد بالجفاف والفيضانات (آخرها يودي بحياة ألف إنسان في باكستان ويدمّر أكثر من مليون منزل لحظة كتابة هذه الأسطر).
يجد الكوكب هنا نفسه أمام دوّامة تتعاظم وتعيد إنتاج نفسها. إنّ التّربة الغنيّة بالموادّ العضوية تختزن كمّيّات هائلة من الكربون وموتها يعني تحرير 850 مليار طنّ منه في الغلاف الجوّيّ للأرض، أي أكثر بمرّتين من الكربون الموجود اليوم في هذا الغلاف وأكثر بثلاث مرّات من ذلك المخزّن في النّباتات الحيّة. هذا يفوق كلّ ما أنتجه النّشاط البشريّ من كربون خلال 30 سنة مضت!

إنّ الواقع حقًّا أسود. هل من عقل يقدر على تخيّل الحياة على الأرض بعد ذلك؟ إن كانت الحروب قد تسبّبت بهجرات لملايين البشر فإنّ موت التّربة وتحوّلها إلى رمال سيتسبّب مع حلول العام 2050 بنزوح أكثر من مليار إنسان. تخيّلوا المشهد. كم من قارب سيغرق أو يجري إغراقه عمدًا؟ من سيحصي الجثث العائمة في البحار؟ من سينظر في عيون المهاجرين الهائمين الجيّاع ليحدّد لونها؟ ستختلط الأعراق والألوان ويبقى الموت واحد.
إنّ الواقع حقًّا أسود ونحن لن نعتذر عن عرضنا لهذه الصّورة السّوداويّة، لأنّها حقيقة مرّة لم نفعل إلّا نقلها. ندرك أنّنا في عالمنا العربّي الممزّق بالحروب والفقر والاستبداد والاحتلال قد لا نملك ترف التّفكير بالكارثة البيئيّة، لكنّ الخطر البيئيّ داهم. إن كنّا ما زلنا نقاتل فإنّنا نفعل ذلك من أجل أجيال ستأتي ومن أجل هويّة نؤمن بقدرتها على المشاركة بفعاليّة في الحفاظ على الحياة كوحدة واحدة متكاملة، على الإنسان الذي “فيه انطوى العالم الأكبر”. إنّ صراعنا من أجل البقاء كهويّة ثقافيّة منتجة للفكر والأدب والفنّ والمعرفة لا يلغي مسؤوليّتنا الكبرى تجاه البشريّة. لنا دور نلعبه هنا ولن نتخلّى عنه لأنّنا لن نتخلّى عن دورنا كمجتمع له رؤيته المعرفيّة الخاصّة التي تقدر أن تساهم بإعادة تشكيل النّظم الحاكمة على الكوكب. التغيّر المناخيّ قضيّة إنسانيّة جامعة كبرى وإن كانت القلّة الحاكمة قد أنتجت نظمًا معرفيّة يديرها الجشع ولا تأبه بمصير الأجيال القادمة، فإنّنا ننتمي إلى فكر آخر يتناقض تمامًا مع عولمة التّوحّش.
لم يفت الأوان بعد لصياغة عالم أكثر عدلًا (على كلّ المستويات، البيئيّ منها داهم) والعدل هنا ليس بين البشر فحسب، بل يجمع في ما يجمع كلّ أشكال الخلق.
نفعل ما نقدر عليه في مجالنا، كجمعيّة تعنى بالصّناعة الّسينمائيّة.
انطلاقًا ممّا أوردنا أعلاه، ساهمنا في إنتاج “الدّليل الأخضر” الذي يرشد صنّاع الأفلام إلى طرق التّقليل من إنتاج الكربون والبلاستيك وغيرها من الملوّثات. إنّ صناعتنا تنتج كميّات كبيرة من غازات الاحتباس الحراريّ، فكلّ حلقة تلفزيونيّة عاديّة من ساعة واحدة تنتج 13.5 أطنان من غاز ثاني أوكسيد الكربون وكلّ سلسلة حلقات من الدراما التّلفزيونيّة المصوّرة داخل الاستديو تنتج 54 طنًا في السّاعة من هذا الغاز وكل عرض تلفزيوني مصوّر داخل الاستديو ينتج 3 أطنان منه وكلّ موقع تصوير نموذجيّ، سينمائيًّا كان أم تلفزيونيًّا، يُنتج ما قد يصل إلى 800 رطل (363 كغ) من النّفايات في اليوم الواحد، علمًا أنّ 80% من هذه النّفايات قابل لإعادة التّدوير أو التّسبيخ.
بالإضافة إلى الدّليل الأخضر نساهم بتنظيم مهرجان “ريف، أيّام سينمائيّة وبيئيّة” في الرّيف اللبنانيّ الشماليّ بالشّراكة مع “مجلس البيئة” في بلدة القبيّات في عكّار. تحمل هذه الدّورة من المهرجان عنوان “ريف، صفر نفايات” وتعرض أفلامًا محليّة وعالميّة تركّز على موضوع الأشجار بالإضافة إلى تنظيمها للعديد من النّشاطات البيئيّة التوّعويّة.

في نشاطنا الثّقافيّ الفنّي نحاول جهدنا ألّا نتجاهل الكارثة البيئيّة التي تهدّد اليوم كافّة أشكال الحياة. لن نتخلّى عن دورنا كمجتمع في حماية الحياة في كلّ مكان ونرفض أن نترك خلفنا صحارى من الرّمال الميتة.
“إن رأيتموني فابكوا” يقول الحجر.

أتينا، رأينا…